مجلة الرسالة/العدد 312/رسالة العلم
نحو فلسفة جديدة
للدكتور محمد محمود غالي
الحركة (البراونية) - عمل كوتون وموتون - مشاهدات بيران
- المجهودات الأولى لأينشتاين - توحيد الظواهر الطبيعية -
غاية العلوم
حدثنا القارئ عن فلسفة ليبنز بأن الحرارة عنده هي الحركة، وذكرنا أن جزيئات جميع الأجسام في حركة مستمرة وهي الظاهرة المعروفة بالحركة (البروانية) نسبة إلى العالم (براون)، وعند ظني أن الذين يبحثون عن الحركة الدائمة يجدونها في جزيئات أية مادة تقع عليها العين، فهي في حركة دائمة لا تعرف للسكون سبيلاً، وهذه الحركة تُحدث فينا شعوراً نسميه الحرارة، وهو حركة جزيئات الجسم لا أكثر ولا أقل، وكما أنه لا يوجد جسم دون أن يكون له حرارة معينة كذلك لا يوجد جسم لا تتحرك جزيئاته بسرعة معينة، وعندما نصف أي جسم بالبرودة الشديدة فإنه على درجة من الحرارة مهما انخفضت عن الصفر الحراري العادي فإنها تفوق الصفر المطلق
وهكذا عندما تحقق للعالم المعروف (دي باي) في السنين الأخيرة الحصول على درجة - 271ْ، أي درجتين فوق الصفر المطلق فإنه بقي لجزيئات المادة عند هذه الدرجة الخفيضة نوع من الذبذبة لازمها دائماً على ضعف مقداره
قد يقسو علينا الشتاء وتبرد الكائنات وتحرمنا الشمس الجزء الأكبر من حرارتها لبعدنا عنها في هذه اللحظة المعينة من السنة، وقد يتجمد معظم حاجاتنا. . . أجل أذكر في شتاء سنة 1929 وكنت أقطن ضاحية (مونت روج) من ضواحي باريس - أن تجمد كل ما نحتاج إليه مما يباع عند البدال، فاللبن والزيت وكل ما يباع سائلاً تجمد وأضحى في عداد الأجسام الصلبة حتى مياه المنزل داخل المواسير ومياه نهر السين تحولت وباتت جسماً صلباً لا يتحرك، ولكن جزيئات هذه الأجسام على برودتها الشديدة التي بلغت في بعض الأيام عشرين درجة تحت الصفر احتفظت بنوع من الذبذبة هو دليل حرارتها مهما كانت منخفضة
هذه الحركة الدائمة في الغازات والسوائل والذبذبة المستمرة في الأجسام الصلبة أصبحت من الأمور التي لا تقبل الجدل، وقد سألني بعض القراء الذين تابعوا مقالاتي هل توصل العلماء إلى رؤية حركة الجزيئات داخل الأجسام أو أنهم اعتبروا هذه الحركة موجودة لأنها حققت الكثير من الظواهر الطبيعية؟ وبعبارة أخرى، هل هذه الحركة مجرد فروض علمية أو هي حقيقة واقعة يمكن أن ترى أثرها العين؟ هل من سبيل أن نرى مثلاً حركة الجزيئات في نقطة من الماء؟
وجوابي أن هذه الحركة بين الجزيئات حقيقية يمكن أن نرى أثرها، وأنه من الأمور العادية أن تقوم داخل المخبر ببعض التجارب التي ترى خلالها أثر حركة الجزيئات داخل السوائل وتصادمها مع غيرها، وهكذا عندما ذكرنا في مقال سابق نقطة الماء على ورقة من الشجر داخل حديقة ساكنة، وقلنا أن هذه النقطة بعيدة جد البعد عن السكون وأنها مكونة من ملايين العوالم وأن كل عالم منها في حركة دائمة، كنا رأينا كغيرنا الحركة الناتجة من اصطدام هذه العوالم بعضها بالبعض وما على الذين يريدون أن يستمتعوا برؤية أثر هذه الحركة الداخلية بين الجزيئات إلا أن يمزجوا بهذه النقطة من الماء نقطة من سائل كولويدي أي مكون من الجسيمات الصغيرة المعلقة كمحلول البرمنجانات أو الحبر ويفحصوا المخلوط الجديد تحت الألتراميكروسكوب. إن هذه الجسيمات الغريبة من البرمنجانات أو الحبر تقع بين ملايين العوالم المكونة لنقطة الماء، تلك العوالم التي تتحرك دائماً حركة لا يؤثر عليها سكون الحديقة ولا يغير فيها تعاقب الليل والنهار، وهي بهذا تصطدم مع الجسيمات الداخلة بينها والتي نرى حركتها بشكل واضح
أذكر يوماً تقدمت فيه للأستاذ كوتون رئيس المجمع العلمي الفرنسي لأقوم بأبحاث طبيعية في مخبره بالسوربون. قدمني الأستاذ الكبير لزميله موتون واقترحا عليّ في ذلك الحين أن أستغل قليلاً ببعض العمليات الألتراميكروسكوبية، وهكذا ظللت أعمل بضعة أيام بذلك الألتراميكروسكوب التاريخي الذي كان من اكتشافهما. كل من يطالع اليوم التاريخ المجيد الذي حازته العلوم الطبيعية في القرن الحالي يعلم أن في أوائل هذا القرن نشر الشابان كوتون وموتون طريقتهما الجديدة في رؤية الأشياء الصغيرة التي لا يراها الميكروسكوب العادي وأن لهما في ذلك أبحاثاً هامة
إن العين تتأثر بأشعة الضوء عندما تقع طول موجاته بين
حدود معينة هي من 100004 إلى 100008 من المليمتر،
بحيث أنه يمكن للعين أن ترى الجسيمات الصغيرة بواسطة
الميكروسكوب ما دامت لا تصغر هذه الجسيمات عن حد معين
مرتبط بطول موجة الضوء المرئي، ولكن كثيراً من
الجسيمات التي نصادفها تقل عن هذا الحد من الصغر، لهذا
وقف في بادئ الأمر التقدم الطبيعي عند هذه الحدود
إن جسيما يقل في العادة عن 101 أو 201 من الميكرون
(الميكرون 10001 من المليمتر) لا يعطينا بالميكروسكوب
صورة واضحة للجسيم، ولا يمكن بمجرد النظر فصل أجزائه
المختلفة، ولكن كوتون وموتون فهما أننا لا نرى في المساء
الكواكب بذاتها وإنما نرى مواضعها، وهكذا استطاعا بإنارة
معينة أن يريا في مجال الميكروسكوب الجسيمات المتناهية في
الصغر، وأدركا أن هذا الجسيم الذي لا نراه بالميكروسكوب
إذا أضيء إضاءة جانبية مماسة يرسل في كل الجهات أشعة
مبعثرة بحيث يظهر في الميكروسكوب بقعة مضيئة لا تشبه
الجسيم، ولكن تدل على وجوده.
وتتلخص تجربتهما في أنهما وضعا نقطة من السائل المراد فحصه، والحامل للجسيمات الكولويدية على كتلة من الزجاج ووضعا عليها شقفة رفيعة من الزجاج، وقد استعملا لإنارة السائل قوساً كهربائياً من الفحم بحيث كونا صورة طرفي الفحم المضيء داخل نقطة السائل المراد فحصها، والموضوعة على كتلة الزجاج، وتحت الشقفة في محور الميكروسكوب.
على أن الجزء الهام في تجارب كوتون وموتون هو أن الأشعة
مائلة للدرجة التي يحدث فيها الانعكاس على السطح
الفاصل بين الهواء والشقفة الزجاجية بحيث لا يصل إلى
الميكروسكوب إلا الضوء المنبعث من الجسيمات
الألتراميكروسكوبية التي نراها في هذه الحالة كما نرى
النجوم، ويعتقد زيجموندي أنه استطاع أن يعرف وجود
جسيمات من الذهب يبلغ قطرها 100006 من الميكرون أي
أصغر بكثير من واحد على مليون من المليمتر
إنه لمشهد رائع أن ترى هذه النجوم تروح وتجيء وترتفع وتهبط ويطول سيرها طوراً ويقصر تارة أخرى وهي بهذا تذكرنا بالمناورات الليلية البديعة التي يقوم بها سلاح الطيران المصري خاصة بالكشف عن الطائرات، فهذه النقط المضيئة في السائل تشبه الطائرات المرتفعة ليلاً في كبد السماء عندما يقع على إحداها أنوار الكشافات من كل صوب، فإننا نرى جسماً ساطعاً في السماء يتحرك جيئة وذهاباً وهي تسطع كالنجوم في الليل الدامس
وهكذا عندما صعدت إلى تلك الغرفة أول مرة لأقوم فيها ببعض التجارب على هذا الجهاز التاريخي رأيت في نقطة من المحلول الكولويدي السماء كأنها ترتسم أمامي. . . رأيت في النقطة الصغيرة الجسيمات كالنجوم الساطعة في ليلة حالكة مع هذا الفارق وهو أن الأجرام الصغيرة داخل النقطة في حركة دائمة شاءتها أسباب طبيعية كما شاءت أسباب فوتوكيميائية (الهابوش) المسكين أن يجتمع مجبراً ويدور قسراً ويتصادم عفواً طول الليل حول المصباح المتألق
على أن ما يجعل لهذه التجارب أثراً في نفسي أنني لم أقم بها على الألتراميكروسكوب التاريخي فحسب، بل في ذات الحجرة المتواضعة التي أجرى فيها (جان بيران) تجاربه الخالدة، تلك التجارب الخاصة بالحركة البراونية، والتي استعمل فيها الجهاز الألتراميكروسكوبي المتقدم الذكر، ففي هذه الحجرة المتواضعة الواقعة في الطابق الثالث من السوربون، والتي تطل على مكتب بريد الحي اللاتيني في شارع كيجا، استطاع جان بيران أن يعين بطريقة تدعو للإعجاب شحنة الإلكترون، وهي الطريقة التي سنشرحها للقارئ عندما ننتهي من الكلام عن الجزيء والذرة ونشرح الإلكترون
وقد تتبع بيران حركة الجزيئات أياماً طويلة واستطاع بالاستعانة بقوانين وضعها العالم الكبير أينشتاين، قوانين كانت باكورة أعماله في سنة 1906، أن يعطي أهم النتائج التي نعرفها عن الحركة البراونية أو الداخلية للأجسام، تلك الحركة التي اكتشف فيها توزيعاً لوغاريتمياً يشبه التوزيع الذي اكتشفه لابلاس لجزيئات الهواء، وهذه التجارب الأخيرة جزء من الأعمال التي أتمها بيران في سنة 1909 والتي منحه من أجلها المجمع السويدي جائزة نوبل للطبيعة لعشرين عاماً بعد ذلك التاريخ
وهكذا يستطيع اليوم أي طبيب بعيد عن المختبرات أن يعيد تجارب كوتون وموتون بأن يكوّن داخل النقطة المراد فحصها صورة مصباح على طريقتهما، ويتأمل الحركة الأبدية داخل أصغر نقطة من رذاذ الماء
وهكذا نجحت طريقة كوتون وموتون اللذين فهما من أول لحظة أنه لا بد في فكرة إنارة الجسيمات من وجود طريقة لرؤيتها، وهكذا يتعلق النجاح في الأعمال على درجة فهم الإنسان لأصول الأشياء ودرجة إدراكه للحقائق، وعند ظني أن شيلز وشيل، وودجود الذين مهدوا لاكتشاف جهاز التصوير الشمسي بأبحاثهم الخاصة بأثر الضوء على نترات الفضة، أدركوا قبل كل شيء أن في أشعة الشمس أسراراً تمكننا من أن نرى الأشياء مرة أخرى بل أن ليبمان أستاذ السوربون لم يكتشف فيما بعد التصوير الشمسي بالألوان إلا لأنه فهم بدرجة دقيقة فكرة التداخل الموجي للضوء
نعود الآن بالقارئ إلى فكرة ليبنز من أن الحركة بين جزيئات السائل التي ذكرت للقارئ إمكان رؤيتها عملياً، لا تسبب الحرارة بل إنها هي الحرارة نفسها، فنقرر أن اختلاف إحساسنا للحرارة عن إحساسنا للحركة لا يدل على أن الظاهرتين مختلفتان، والواقع أن بين أعصابنا ما يجعل شعورنا يختلف إزاء الحركة أو الذبذبة المستمرة للجزيئات، فلا نسجلها كشعور للضغط ولكن كشعور لكمية جديدة نسميها الحرارة
هذا الجمع بين الظاهرتين في ظاهرة واحدة يعد تقدماً كبيراً للعلوم وللإنسان وريث هذه العلوم، ولا شك أن النجاح العلمي معقود اليوم على ربط الظواهر الطبيعية بعضها ببعض وإزعاجها ما أمكن إلى أصل واحد، وعند ظني أن ليبنز وبيران وغيرهما يقدمون بهذا النوع من التوحيد في الظواهر الطبيعية من الخدمات للإنسان أكثر من هؤلاء الذين اخترعوا لنا القاطرة أو الطائرة
أن نترك على جريدة موضوعة على منضدة كوباً من الماء فيهب النسيم بشدة على هذه الجريدة فيرفعها بعنف ويرفع معها الكوب فيقع على الأرض ويتدفق منه الماء - أمر لا يدهش. ولكن أن نعرف حركة ما بداخل الكوب من جزيئات ونعرف أن هذه الحركة هي ظاهرة الحرارة - أمر يعتبر في صميم تقدم معارف البشر
كذلك أن ترفعنا قطعة من الألمونيوم، رتبنا فيها مقاعد للجلوس، من الأرض إلى طبقات الهواء، وأن نجعل الظروف الطبيعية التي وقعت على الجريدة والكوب من رفع الهواء لهما ظروفاً مستمرة بالنسبة لقطعة الألمونيوم فنسافر على هذه القطعة من القاهرة إلى الإسكندرية أو من القاهرة إلى لوندرة وذلك بالسيطرة على عاملين: العامل الأول دائرة كارنو واحتراق البنزين، والعامل الثاني دوران المروحة لدفع الهواء - مسائل يجب ألا تدهشنا ولا نعتبر أنها ذهبت بنا بعيداً في التقدم - وأما أن نعرف ما يدعونا إليه ليبنز وأمثاله، وأما أن نعرف طبائع المسائل ونرجع بالظواهر إلى صورها الحقيقية، وأما أن نحاول توحيداً في ظواهر الكون، فإن هذه خطوات جريئة إلى الأمام.
وعند ظني أنه في اليوم الذي يُرجع فيه العلماء كل مظاهر الكون إلى قليل من الظواهر، وكل جزيئاته إلى قليل من العوامل والمكونات الأولى، نكون قد صعدنا أرفع الدرجات في سلم المعرفة
أجل: أن في اليوم الذي نرجع فيه كل ما في الكون من مادة حية وأخرى عديمة الحياة من إنسان وحيوان ونبات وجماد، من كل مظاهر الضوء والمادة والكهرباء بل والقوى، إلى حوادث زمنية مكانية - يلعب على مسرحها عدد قليل من المكونات التي يغلب على ظني أنها لا تتعدى الإلكترون والبوزيتون والفوتون والنيترون نكون قد سرنا بالعلوم إلى لأقصى الدرجات وبالفلسفة إلى أعلى المراتب بحيث يصبح كل ما نراه ونسمعه ونشعر به، وكل ما يخطر على بالنا ويجول بأنفسنا يجد تفسيراً مادياً في اختلاف موضعي وزمني لهذه المكونات وما يتفرع منها
عندئذ نكون قد فهمنا من الكون أكثر مما نفهمه اليوم. ولو أننا وُفقنا بعد ذلك إلى التغلغل في معرفة حقيقة الزمن والحيز فإن التقدم عند ذلك يفوق كل قدر
لا شك أن ليبنز وبيران وغيرهما خطوا بنا في هذا السبيل. لقد أردت أن أتحدث إلى القارئ عن نتائج فلسفة ليبنز فأحدثه عن عمل (ماير) و (بولتزمان) ولكن تجارب كوتون وموتون الإيجابية وأسئلة القراء التي تكرموا بتوجيهها إلينا والرد عليها بذكر تلك التجارب التي تعد آية في العلم التجريبي طغت على كل تفكير، لذلك آخذ العدة لمل فاتني في مقال آخر.
محمد محمود غالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق