النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: نشأتها، أسسها الجوهرية، ومنطلقاتها الفكرية (الجزء الثاني)
تطرقنا في الجزء الاول من هذا البحث الى نشأة النظرية النقدية في سياقها التاريخي والموضوعي، كما تطرقنا الى اسسها الجوهرية "الفلسفية والسوسيولوجية" خاصة، اما في هذا الجزء سنتطرق الى منطلقات النظرية ومشروعها الفكري.
-------
II. مشروع النظرية النقدية ومنطلقاتها الفكرية
1- نقد النزعة الوضعية الحديثة والتجريبية.
وجه الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت انتقاداته الحادة إلى النزعة العلمية المفرطة وأنساقها التي تحولت إلى أيديولوجيات تستند إلى يقين معرفي ومعتقدات إيمانية فكلها في نظرهم قد غدت أنظمة معرفية مغلقة تعتمد أشكالا تنظيمية جد مقننة للحياة الاجتماعية ، من خلال إسقاط آليات فهم الظواهر الطبيعية على الظواهر الاجتماعية بمعنى أنها أصبحت أيديولوجيات شمولية تنظم علاقات الإنسان بالإنسان والإنسان بالأشياء ، مما حدا برواد مدرسة فرانكفورت إلى رصد تحول العقلانية كأيديولوجيات ، ومحاولة الكشف عن مكامن التسلط فيها ومحاربة نزعتها الوثوقية (1).
واعتمادا على إرث النظرية النقدية واستكمالا لمشروعها ، واستنادا إلى التطورات الاقتصادية التي عرفها المجتمع الغربي الحديث، وجه "هابرماس" انتقاداته أيضا لكل من النزعتين "الوضعية و التجريبية" انطلاقا من كون المهمة الفلسفية تقتضي ذلك، لكشف الوهم الإيديولوجي الكامن من وراء النزعتين معا، لأنهما يمثلان وجهين لعملة واحدة(2).
إن المعرفة العلمية التي سخرت لفهم الطبيعة والتحكم فيها تم استخدامها أيضا للتحكم في الإنسان ، بمعنى أن منطق النظم الذي تصوره الإنسان للسيطرة على الطبيعة، تم نقله بالكامل للتحكم بالأفراد والجماعة، وهذا ما يبادر إلى أذهاننا عند فحص مختلف التنظيمات القانونية والإدارية، وأشكال الترشيد والضبط والتقنين والعقلنة لمختلف جوانب الحياة في العالم المعاصر، فكل هذه الآليات تعمل وفق نظمها ومنطقها الداخلي وتكرارها إنتاج مجتمع طبقا لمقاسات ومواصفات معينة، لكن مدرسة فرانكفورت ترفض أي تناظر أو تماثل تجريبي قد يعقد بين الظواهر الطبيعية والاجتماعية ، يمكن صياغته في قواعد وقوانين، فقواعد السلوك البشري لا تمت بصلة للقواعد التي تتحكم في ظواهر الطبيعة.
الأمر الذي حدا برواد مدرسة فرانكفورت للوقوف جنبا إلى جنب لمعارضة الوضعية والتجريبية والنزعة التقنوعلموية* الجامحة في حدود عواقبهما، ولعل ما يميز هذا النقد العنيف محاولة الكشف عن العقلانية "بوصفها آليات للهيمنة والتسلط"، التي بتطويرها العقل التقني تحت ستار العلم من أجل العلم وبدعوى الحياد والموضوعية العلمية.
ويمكن أن نجمل الاعتراضات والنقد العنيف الذي قام به رواد فرانكفورت في العناصر التالية:.
ـ لا تحفل النزعة الوضعية الحديثة إلا بالتجربة الخالصة والمحضة ، ووحده التجريب الذي تقوم به العلوم الحقة يستحق لقب "المعرفة" وما عداه يلقى به في قمامة التاريخ.
ـ تنظر النزعة الوضعية للحاضر كحدث تم انجازه، وتتنصل كليا من تغييره.
ـ تعلن السوسيولوجيا التجريبية (أن كل ما يمكن ملاحظته لا يعدوا أن يكون قي نظرها أشياء، ومحض أشياء)(3).
2 - نقد المجتمع الاستهلاكي:
لقد كان الاستهلاك في الماضي هو وسيلة لغاية ما، وهي تحقيق سعادة الإنسان ، أما اليوم فقد أصبح الاستهلاك غاية في حد ذاته، فالإنسان اليوم مفتون بإمكانية شراء المزيد من الأشياء الجديدة والأفضل، فقد أصبح فعل الشراء والاستهلاك هدفا لاعقلانيا لأنه غاية في ذاته، فشراء أخر موديلات "السيرات، الملابس، الآلات ..." هو هدف كل إنسان، وتكون اللذة الحقيقية لاستخدام هذه الأشياء، ثانوية بالنسبة للحصول عليها.
لقد حقق المجتمع الصناعي وفرة في الإنتاج، ومن أجل تصريف هذه الوفرة يجب أن توازيها وفرة في الاستهلاك، فمن أجل ترسيخ قيم الاستهلاك، تعمل الشركات الكبرى من خلال آليات الإشهار على توحيد الأذواق، فوفرة الإنتاج والاستهلاك ـ حسب رواد مدرسة فرانكفورت ـ تخدر المجتمع وتجعله يكتسب مناعة ضد أي تغيير نوعي، فالفرد في هذا المجتمع يعتقد أن له قيمة وأنه حر بمجرد أنه يستطيع أن يختار بين أنواع المنتجات الصناعية لتلبية حاجاته، (انه حر فقط في اختيار أسياده) حسب ماركيوز(4).
فالرغبة في الاستهلاك تجعل الإنسان لديه رغبة مطلقة منفصلة تماما عن حاجاته الحقيقية، فالمجتمع الصناعي يعتقد أنه حر في وقت فراغه، فوقت فراغه هو الأخر خاضع للمنظومة الرأسمالية، فالإنسان اليوم يستهلك وقت فراغه في مشاهدة المباريات الرياضية والأفلام السينمائية... بطريقة لا تختلف عن استهلاكه للسلع فالإنسان يستمتع بمشاهدة ما هو مفروض عليه أن يراه وأن يسمعه.
فرواد النظرية النقدية بعدما شاهدوه من انحطاط للقيم الفردية داخل المجتمع المتقدم، ومن انسحاب لحق الفرد في الاختلاف في النظام الشمولي أولا وفي النظام الرأسمالي ثانيا، حاولوا إعمال العقل لإعادة الاعتبار للفرد ولتنشيط الفكر النقدي(وانطلاقا من هذا عملوا على إعادة قراءة النص "الفرويدي" على ضوء تحولات المجتمع الصناعي متسائلين عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوري وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة و علاقتها بالعملية الإنتاجية وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب)(5).
3- نقد الايديولوجيا :
لقد دأب المنظرون الأوائل منذ ظهور المجتمع البرجوازي إلى الإشارة للأيديولوجيا على انه "الوعي الزائف" وقد خلص "أدورنوا" إلى أن ظهور مفهوم الايديولوجيا مرتبط بالمجتمع البرجوازي وليس بالمجتمع الصناعي، وتعتبر صناعة الثقافة التي ترجع جذورها إلى القرن الثامن عشر المولدة للأيديولوجيا، وهي غير منفصلة عن تاريخ المجمع البرجوازي(6).
ويعتبر علم الاجتماع المعاصر الايديولوجيا كقاعدة "لسوسيولوجيا المعرفة" أي كوصف للتكوين الثقافي وتمثلات الشرائح الاجتماعية المختلفة بالإضافة إلى العلاقة بينها وبين الوضع الاجتماعي، فعلم اجتماع المعرفة ينظر إلى معنى الحياة الإنسانية من منظور الثقافة أو "القيم" السائدة فيه.
وعلى العموم يرى أدورنوا أن علم الاجتماع يجب أن يهتم بالأيديولوجيا عن طريق أبحاثه في التواصل، ووضعه إلى جنب المنتجين والمستهلكين لصناعة الثقافة الموضوعة بهدف إنتاج معارف محدودة وعقل محدود، غير أن علم الاجتماع إذا أراد أن يصبح ناقدا للايديولوجيا، يجب عليه أن يحلل وسائط الاتصال العامة ويدرس "سيناريوهاتها" التي تعرف بثقافة الجماهير، والتي تصب بعناية بالغة في تبرير ما هو موجود والسيطرة المحكمة على الذوق والنقد على حد سواء(7).
وعلى العموم تعلن تلك الايديولوجيا أن ليس هناك ما هو أحسن مما كائن ولا داعي للبحث عما ينبغي أن يكون، فالواقع ما هو كائن (وهذه الثقافة دعاية ليس إلا، وما تنفك أن تتحول رويدا رويدا إلى إرهاب، عندما تعمل على إقرار الوضع القائم كأمر لا مناص أو بديل عنه(.
خلاصة
إن نشأة النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت لم تكن وليدة الصدفة بل جاءت نتيجة ظروف العصر ومشاكل التي تتخبط فيها، فمن أجل صياغة نظرية نقدية تساير متطلبات العصر لم يتم الرجوع إلى فكر فيلسوف أو عالم اجتماع واحد، ولم يساير رواد النظرية النقدية التقاليد التي كانت موجودة في تلك الفترة بالاعتماد على منهج واحد أو إتباع طريق مفكر أحادي التوجه، بل قام الرواد الأوائل بالمزاوجة بين الكثير من العلوم الاجتماعية، والانطلاق من مفكرين مختلفين وفي بعض الأحيان متعارضين في أطروحاتهم مثل المزاوجة بين فكر ماركس وماكس... ان المتتبع للنظرية النقدية سيجد انها عرفت مرحلتين اساسيتين، مع جيلين مختلفين في الطرح والتصور في الكثير من القضايا، لكن في الجانب المنهجي التحليلي فسنجد انها تسير في نفس الخط النقدي الذي نُهج منذ ان تأسست كمعهد للبحوث الاجتماعية. إلا ان الاختلاف الجوهري بين الجيل الأول والثاني نجده في التعاطي مع الموضوعات المعاصرة خاصة فيما يتعلق بإشكالية الكبرى المرتبطة بالمجتمع من قبيل الاستلاب والهيمنة، التي هي سمت العصر الحالي، والتي برزت بقوة بعد تزايد التقدم العلمي والتكنولوجي.
خالد مخشان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ المراجع والمصادر والهوامش:
11- حسن مصدق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2005.: ص 35
P 34 :Habermas, J. : « connaissance et intérêt », Tr. Jean – Renée Ladmiral, Gallimard, 1976-2
* - التقنوعلموية : : هي إيمان العلم بنفسه، أي لم يعد باستطاعتنا اعتبار العلم أحد الأشكال المعرفية الممكنة، بل علينا على العكس من ذلك اعتبار العلم والمعرفة بوصفهما الشيء نفسه. إذن ننعت بالعلموية تلك المحاولة لتبرير حصر المعرفة بالعلم، كما أن النظرية العلمـوية تنظر إلى قدرة العـلم على حل جميع إشكـالات العصر المطروحة. (يورغن هابرماس: المعرفة والمصلحة، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل الطبعة الأولى كولونيا- ألمانيا 2001: ص 17
3- حسن مصدق : المرجع السابق : ص 36
44- هربرت ماركيوز : الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جور طرابيشي ،الطبعة الثالثة، دار الآداب بيروت 1988: ص 37
55- محمد نور الين أفاية: الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هابرماس، إفريقيا الشرق، الطبعة الثانية المغرب 1998 : ص 38
6- حسن مصدق: المرجع السابق : ص 50
7ـ نفسه: ص 52
8- حسن مصدق: المرجع السابق : ص 53
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق