بعيداً عن النظريات المُعقدة: كيف تصبح الفيزياء مُسلية؟!
4
لعل أكثرنا قد مر في حياته بذلك السؤال الظريف الذي يقارن بين وزن الحديد والخشب، أيهما أثقل من صاحبه!. وﻻ أعتقد أن من يعرف الإجابة الصحيحة في مجتمعنا العربي قد يتجاوز عشرة من كل مئة على تقديري الشخصي.
وكان ذلك السؤال دوماً يخرج من صاحبه المرح في لحظة مزاح أو فراغ وقت مع أصدقائه بهيئة مثل “طن الحديد أثقل أم طن الخشب؟!”.
طن الحديد وطن الخشب!
ولم أسلم أنا من ذلك السؤال الذي أتاني في المدرسة الثانوية من أبي، من باب أن الرياضيات هي مجاله الذي يهواه. واندفعت أنا ﻷقول أن الحديد بالطبع هو الأثقل!، لكن نظرته أوحت إلي أن هناك شيئاً خاطئاً فلبثت قليلاً ﻷتخيلهما في عقلي، وبدا لي أن حجم الطن من الخشب كبير بالنسبة للحديد!، لكن تلك الإجابة أيضاً قوبلت بنفس النظرة من أبي مع قليل من الضحك!.
ولم يتكلم إﻻ لما وصلنا للمنزل حيث أتى بأختي التي تصغرني بعام واحد ليسألها ذات السؤال، لتجيب في بداهة شديدة أنهما متساويان في الوزن “طن حديد وطن خشب!”، لتجعل فكي يتدلى ببلاهة شديدة!، ليس بسبب الإجابة وحدها على أي حال وإنما بسبب سرعة بديهتها التي لم تكن أول مرة تغلبني بها!.
وبعد تلك الحادثة المؤسفة -إن جاز التعبير- بفترة، كنت عاكفاً على قراءة كتاب في الفيزياء وجدته مع أحد أصدقائي كتبه أحد العلماء السوفييت. وأعجبتني طريقة عرضه الجميلة والمبسطة للنظريات الفيزيائية المعقدة، كما وجدت فيها شرحاً لبعض الظواهر الفيزيائية التي نمر بها كل يوم مرور الكرام وﻻ نكاد نرى بها سراً أو شيئاً خفياً مبهراً!.
العالِم العظيم ريتشارد فاينمان.. فيزياء ونوبل وفنون ورومانسية !
بيرلمان، ذلك المتعصب، من جعل الفيزياء مسلية!
كان اسم ذلك العالم ياكوف بيريلمان، عالم سوفيتي توفي في عام1942، وله كتب مثل ذلك الكتاب الذي أنا بصدده “الفيزياء يمكن أن تكون مسلية!”، و”الرياضيات يمكن أن تكون مسلية!”. وإنما تعمدت ذكر كلمة سوفيتي ﻷنك ستلاحظ منه تعصباً واضحاً قد يكون مجحفاً ومبالغاً فيه في بعض الأحيان لأعمال “رفاقه” من الروس، حتى لو كان هناك من سبقهم إلى تلك الأعمال من الشعوب اﻷخرى.
وذلك ليس بمستغرب على أي حال، فإني أذكر مشاهدة فيلم روسي قديم جدا يمجد في أعمال علماء الطيران الروسي إلى حد سخيف، فترى الطالب النهم يقول ﻷستاذه بطل الفيلم إن فلاناً قد اكتشف كذا وكذا من تقنيات الطيران، فيجيبه أستاذه في ﻻمبالاة مقصودة أن الفلاح السوفيتي الفلاني قد سبقهم في ذلك، ليظهر بشكل متعمد أن السوفيت هم أصل حضارة البشر!.
إسقاط الفيزياء على الحياة اليومية
وإن ما يجذبك في ذلك الكتاب هو أن المؤلف لم يسرد قوانيناً ونظريات وحسب، وﻻ حتى ضرب أمثلة افتراضية على تلك النظريات. بل إنه يتعمد التقاط حادثة معينة أو ظاهرة تراها كل يوم، ويفسرها من منظور الفيزياء بشكل مبسط وطريف أحياناً.
فقد يتحدث عن فرضية ذكرت في رواية مشهورة مثلاً، ويتناولها بتفسير فيزيائي ليبين هل كانت لتنجح لو تمت في الحقيقة أم ﻻ!، حتى لو كانت فرضية جنونية مثل تحقيق خرافة طفو الأجساد في الهواء، فإنه يذهب أبعد من مجرد متعة قراءة قصة خرافية إلى بعد أكثر إثارة وتشويقاً!، فيبحث في إمكانية طفو أجسادنا فعلاً في الهواء!!
من المدفع إلى القمر
ولعل من أجمل اﻷمثلة التي ذكرها على تلك الروايات هي رواية جولز فيرن الشهيرة “من الأرض إلى القمر”، والتي تخيل فيها فيرن إمكانية إرسال بشر إلى سطح القمر عن طريق وضعهم في كبسولة وإطلاقها عبر مدفع إلى القمر!.
وبالطبع فإن من يقرأ رواية صدرت قبل عام 1870 تتحدث عن الصعود للقمر، سيأخذها على محمل الخيال وضروب الجنون والخبل، وسيكملها على أنها رواية طريفة خيالية يسلي بها وقته فحسب!. لكن بيرلمان يأخذها على محمل الجد تماماً!، ويذهب في تفصيل إمكانية تطبيق نظرية فيرن عملياً، وهل كان مصيباً أم ﻻ حين قال أن جثة الكلب التي ألقيت من الكبسولة استمرت بالطيران محاذية للكبسولة ولم تسقط؟!!.
من أمسك رصاصة بيديه!
ومن الروايات الخيالية التي يجعلك تنظر إليها بعينين مختلفتين تماماً بعد قراءتك لتفسيرها من منظور الفيزياء، فتصبح كالطفل الصغير المملوء بالفضول وهو ينظر بقلب مملوء بالإثارة لذلك العالم الواسع من حوله!.
من تلك الروايات إلى الأحداث الواقعية، فتجده يشرح لك ببساطة كيف استطاع الألمان ضرب فرنسا بالمدفعية من على بعد يتجاوز 110 كم، لتكتشف أن الألمان بنوا مدفعاً بلغ طول ماسورته 34 م!، ﻷنهم اكتشفوا قدراً أن طبقات الجوالعليا يكون الهواء فيها أقل كثافة فتقطع القذيفة مسافة أطول فيها. فبنوا مدفعاً يلقي بالقذيفة إلى ارتفاع 40 كم فوق سط الأرض!.
وﻻ تعميه مناظر القتلى وهول الدماء في الحرب العالمية الأولى أن يفسر لك خبر الطيار الفرنسي الذي ﻻحظ شيئاً صغيراً يطير بجواره، ثم اكتشف لما التقطها بيده أنها رصاصة ألمانية!!. ويثبت لك بما ﻻ يدع مجالاً للشك أن ذلك ممكن جداً من الناحية الفيزيائية!.
عودة إلى طن الخشب!
وبالطبع أنا لن أغفل ذكر الحدث الرئيسي في هذا المقال ﻷسترد كرامتي أمام أبي وأختي ، فقد وجدت أثناء قراءتي في الكتاب سؤالاً يبحث في الحديد والخشب، أيهما أثقل ولماذا.
ويبين أن قانون أرشميدس للسوائل الذي يقول بأن كل جسم يفقد من وزنه الحقيقي مقداراً يساوي وزن السائل الذي يزيحه ذلك الجسم، يبين أن ذلك القانون يسري أيضاً على الهواء، فبالتالي فإن الحديد والخشب يفقدان من وزنهما الحقيقي مقدار ما يزيحانه من الهواء. أي تلك الكمية من الهواء التي كانت لتملاً المكان أو الحيز الذي يشغله طن الحديد أو طن الخشب.
فلكي نقارن بين وزنيهما الحقيقيين، يجب أن نضيف كمية الهواء المزاح إلى المعادلة، وبذلك نقارن بين وزن طن الحديد+وزن الهواء الذي كان يشغل حيز طن الحديد، وبين وزن طن الخشب+وزن الهواء الذي كان يشغل حيز طن الخشب.
وبما أن كثافة الخشب أقل من الحديد، فستجد أن طن الخشب يشغل حيزاً أكبر من طن الحديد ب15 مرة!. وبهذا يكون الوزن الفعلي لطن الخشب أكبر من الوزن الفعلي لطن الحديد!.
وما إن قرأت ذلك حتى سارعت بتصوير تلك الصفحة من الكتاب وحفظها لدي حتى ألقى أبي وأختي فأريهما كيف كنت على حق بالنهاية، وبالدليل!.
الخلاصة
أكتب لك هذا المقال لتبيان فائدة كتاب كهذا، فلا أنصحك به لمجرد متعة استكشاف الفيزياء وحسب، وإن كان ﻻ بأس بهذا على أي حال. غير أنني أريدك أن ترى أبعد من ذلك بكثير، فإن تقريب علوم كالفيزياء إلى أذهاننا بصورة شيقة ربما تجذب بعضنا لدراسة ذلك العلم الذي تقوم عليه أسس حضارتنا الآن.
ذلك الكتاب يصلح لمن هم في المرحلة المتوسطة تقريبا، ﻷن الكاتب كتبه باﻷساس لطلاب المرحلة الثانوية الروسية منذ أكثر من نصف قرن
المصدر: اراجيك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق