جيمس كرول … عامل النظافة الذي غير علوم الأرض
1
في العقد السادس من القرن التاسع عشر -أي حوالي ١٨٦٠- شهد المجتمع العلمي في أوروبا صدور مجموعة أبحاث علمية متوالية من جامعة أندرسون باسكتلندا كتبها شخص مجهول تماماً اسمه “جيمس كرول” حول الفيزياء وعلوم الأرض (الجيولوجيا) والفلك. هذه الأبحاث -التي كتبها جيمس لوحده- تميزت بمستواها الأكاديمي العالي وابتكارها لفرضيات ونظريات جديدة لبعض المعضلات في هذه العلوم؛ وأحدها أجاب على لغز حير علماء الأرض في العالم لعقود!!
دعونا نأخذ القصة من البداية. “جيمس كرول” James Crollولد لعائلة فقيرة جداً عام ١٨٢١ في مزرعة صغيرة في اسكتلندا، وترعرع وهمه لقمة عيشه بالرغم من شغفه بالقراءة والعلم الذي بدأ بالاشتعال بعد قراءته لمجلة “البنس” الثقافية -سميت كذلك لأنها تكلف بنس واحد (الجنيه الاسترليني يساوي ١٠٠ بنس)- بعمر ١١ عاماً.
بدأ بالعمل لكسب رزقه قبل أن ينهي دراسته الإعدادية بعمر ١٣ عاماً وقضى العقود التالية من حياته متنقلاً من وظيفة لأخرى -كعامل طواحين، وتاجر شاي، ومدير فندق، ومندوب مبيعات لشركة تأمين، وصحفي- وكان السبب في تنقله المستمر في مجالات مختلفة هو ميله إلى التفكير التحليلي والوحدة مما يجعل العمل اليدوي والاختلاط اليومي بالناس مشتتاً وصعباً، وأيضاً أصيب جيمس في مرفقه بعمر ٢٥ سنة مما سبب له التهاباً ثم تصلباً مفصلياً مزمناً، وبالتالي صعب عليه العمل اليدوي وفي نفس الوقت توفر له المزيد من الوقت للالتفات أكثر إلى اهتماماته الفكرية –
في الحقيقة تمكن جيمس من كتابة أول كتاب له بينما كان مندوباً للمبيعات عام ١٨٥٧ وكان عنوانه “فلسفة الأديان”! في عام ١٨٥٨ وصل بجيمس الحال إلى أن يعمل كعامل نظافة وحارس في جامعة أندرسون ومتحفها -تغير اسم الجامعة إلى ستراثكلايد لاحقاً – حيث يقضي ليله في تنظيف المكان وكذلك في حراسته لوحده، أو هكذا يفترض!
كانت هذه الوظيفة مثالية لجيمس حيث استغل وجود مكتبة ضخمة داخل الجامعة -بلا رقيب ولا حسيب بعد انتهاء العمل في الجامعة-، فأصبح يأتي بأخيه الأصغر ليقوم بالتنظيف والحراسة عنه فيما هو يتصفح الكتب ويتعلم مختلف العلوم -الطبيعية والفلسفة بالتحديد- بنفسه طوال الليل.
قضى جيمس على هذه الحال سنين عديدة مكنته من التبحر -بلا معلم- في أعماق الكتب وآخر الأبحاث، وبحكم حيازته لعقلية شغوفة ونشطة فقد رأى أن يكتب مرئياته ونظرياته على شكل دراسات وأوراق بحثية و يتقدم بنشرها في مجلة علمية.
كانت كتابات جيمس في هذه الفترة تدور حول فيزياء الكهرباء والحرارة وعلوم الفلك، لكن الأبرز -وهو موضع الحديث هنا- كان حول الظروف الفلكية التي أثرت على المناخ الجغرافي للأرض حيث نشر عام ١٨٦٤ بحثاً ثورياً بعنوان “حول السبب الفيزيائي لتغير المناخ خلال الحقب الجغرافية” وذلك في المجلة الفلسفية أو Philosophical Magazine.
السبب الفيزيائي لتغير المناخ خلال الحقب الجغرافية – العصور الجليدية
لتعرف ما قصدته حين قلت عن البحث “ثوري”، دعني أشرح لك باختصار شديد الوضع الكائن في المجتمع العلمي آنذاك حيال تغيرات المناخ السابقة لكوكبنا الأزرق.
لطالما حار علماء الأرض والجغرافيا في أوروبا من التضاريس الغريبة -من أودية متصدعة ذات شقوق تبدو منحوتة وجلاميد (صخور ضخمة) متناثرة في أماكن يصعب تفسيرها- وكذلك الأحافير التي تتواجد في أماكن غير متوقعة -مثل عظام الأيل القطبي التي وجدت في جنوب فرنسا
وظهرت نتيجة لذلك العديد من الافتراضات عديمة الأدلة؛ منها ما هو مضحك كافتراض دي لوك الفرنسي أن الجلاميد الجرانيتية الضخمة وصلت إلى أماكنها الحالية (فوق طبقة من الأحجار الكلسية) نتيجة احتباسات في الأرض ضغطت هذه الصخور في أماكنها وقذفت بها مسافات شاسعة، ومنها ما هو منطقي كاقتراح العالم البريطاني آرثر هالام احتمالية مرور صفائح جليدية نحتت الأودية وحملت الجلاميد، وسانده العالم الكبير جيمس هوتون بطرح فرضية شيوع الأنهار الجليدية في الماضي البعيد، لكنهم لم يملكوا أدلة وقتها وبالتالي لم يلتفت لهم المجتمع العلمي -التقليدي والجامد- ولم يرع هذه الفرضية أي اهتمام لأكثر من نصف قرن.
لاحقاً بدأ عدد قليل من علماء الطبيعة يتوصلون لفرضيات مشابهة حيث طرح السويسري كارل شيمبر مصطلح “العصر الجليدي” (Ice Age) عام ١٨٣٧، وأيده العالم الآخر لويس أغاسيز الذي جاب جبال أوروبا وأوديتها لجمع الأدلة وعرضها في مختلف المؤتمرات العلمية محاولاً إقناع المجتمع العلمي بصحة فرضية العصور الجليدية وأنها سبب التغيرات الطبيعية التي يرونها حولهم في أوروبا
لكنه واجه حرباً من مجموعة من أكبر علماء ذلك العصر مثل ويليام هوبكنز -أحد قادة المجتمع العلمي الجغرافي آنذاك- الذي قال بسخافة الفكرة واستحالتها ميكانيكياً، والسير تشارلز لايل – أحد أعظم الجغرافيين في ذلك العصر- الذي انتقد وأنّب أغاسيز في أحد المؤتمرات (في الحقيقة لايل اقتنع لاحقاً بالفكرة). حتى لا نظلم العلماء الذين رفضوا الفكرة فإنه يجب أن نوضح أن أغاسيز -والعلماء الذين في صفه- لا يعرفون سبب حدوث العصر الجليدي وانتشار الأنهار الجليدية، وهنا يأتي دور صاحبنا الأول: جيمس كرول.
قدم جيمس في ورقته البحثية آنفة الذكر سبباً فلكياً للعصور الجليدية غاب عن علم الجغرافيين وعلماء الأرض. ببساطة كان السبب بحسب وصف جيمس هو التغيرات الدورية التي شهدها مدار الأرض عبر الألفيات، بحيث يتغير من مدار بيضاوي إلى دائري ثم إلى بيضاوي مرة أخرى وهكذا، وهذا يتوافق مع توسع الغطاء الجليدي على سطح الأرض -وهو ما نعنيه بالعصور الجليدية- وتراجعه.
كانت هذه الفكرية ثورية بكل ما تحمله من معنى وبفضلها بدأ العلماء في كل مكان بالاقتناع بالفكرة وتبنيها، وأيضاً كان لهذه الفكرة الفضل في تغيير حياة جيمس للأفضل حيث عرضت عليه وظيفة في هيئة المساحة الجيولوجية باسكتلندا وتم تكريمه على أوسع نطاق حيث أعطي مرتبة زميل (Fellow) في أكاديمية العلوم بنيويورك وأيضاً في المجتمع الملكي في لندن -أقدم وأرقى جمعية علمية في أوروبا وربما في العالم- وهذه المرتبة لا تعطى إلا لأبرز علماء العصر، وكذلك تم منحه شهادة فخرية من جامعة سانت أندروز باسكتلندا، بالإضافة إلى عدة جوائز وتكريمات أخرى دولية. بالإضافة إلى ذلك فقد علق عالم الطبيعة الأشهر ‘تشارلز داروين’ آنذاك على أبحاث جيمس بقوله: “من الغريب أن علماء الجيولوجيا مترددون في الاعتراف بحدوث الفترات الجليدية البينية -فكرة جيمس كرول-، والتي قلبت بقوة نظريات المناخ”.
تغيرت حياة جيمس بعد هذه السنين من الدراسة والبحث وحصل على التكريم والاحترام الذي يستحقه حتى أصبح يدعى ليحاضر في أرقى المجامع العلمية في العالم، وحصل على وظيفة مريحة تسمح له بالكتابة والبحث وأيضاً أصبحت لديه شبكة من الصداقات والمعارف في المجتمع العلمي ساعدت أكثر في نشر نظرياته وتغذية أفكاره. بعدها بسنين -بالتحديد عام ١٨٧٥- كتب جيمس كتاباً ضخماً عنونه بـ”المناخ والزمن” أصبح مرجعاً في علوم الأرض حول العالم، وأتبعه بعدها بسنين بكتابين مرجعيين أيضاً أسماهما “مناقشات حول المناخ وعلم الكونيات” و “التطور النجمي وعلاقته بالزمان الجيولوجي”.
في النهاية، أدعك لتتساءل: كم شخص عبقري بيننا منعته ظروف الحياة من الإبداع وحرمتنا موهبة كانت ستغير معارف البشر؟
المراجع:
– كتاب “A Short History of Nearly Everything” لبيل برايسون
– Fleming, J. R. (2006). James Croll in context: the encounter between climate dynamics and geology in the second half of the nineteenth century. History of Meteorology, 3, 43-53
المصدر : اراجيك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق