الأحد، 26 فبراير 2017

جون لوك

نظرية المعرفة باعتبارها مُدخلًا فلسفيًاعدل

إن الذى حفز لوك نحو إقامة فلسفة جديدة هو انشغاله بالأسئلة الفلسفية التقليدية المتعلقة بالنفس والعالم والألوهية. لكن بدلاً من انطلاقه نحو البحث في هذه المشكلات بدأ بطريق لم يطرقه قبله معظم الفلاسفة، وهو البحث في المعرفة الإنسانية(4 ). وكان مبرره في هذا أن أى آراء حول مشكلات الفلسفة هى نمط من المعرفة، ولذلك فقبل أن نبدأ في البحث في المعرفة الإنسانية يجب أولاً البحث في أداة هذه المعرفة وهى الفهم البشرى. ولهذا السبب يعد لوك أول من نظر إلى البحث في طبيعة المعرفة الإنسانية على أنه النقطة التى يجب الانطلاق منها قبل البحث في موضوعات المعرفة ذاتها. وهكذا كان لوك هو أول واضع لمبحث الابستمولوجيا أو نظرية المعرفة(5 ). والحقيقة أن الإجابة عن مشكلات الفلسفة التقليدية مثل طبيعة النفس والعالم والألوهية والأخلاق لم تشكل عند لوك الأولوية الأولى في فلسفته وحلت محلها مهمة إقامة نظرية في المعرفة، حتى أصبحت نظرية المعرفة عنده ذات الأولوية القصوى. صحيح أننا نجد لدى لوك آراء حول الجوهر والسببية والنفس والعالم والألوهية والأخلاق والسياسة، إلا أن آراءه حول هذه الموضوعات كانت نتيجة ثانوية للمبادئ التى وضعها في صورة نظرية في المعرفة. سبق لديكارت أن بحث في إشكالية المعرفة، لكنه بحث هذا ظل مقيداً بالطابع الميتافيزيقى لفلسفته، إذ شغلته إشكاليات العلاقة بين الفكر والامتداد، والنفس والجسم، وإثبات وجود الأنا أفكر ووجود العالم والألوهية وبساطة وخلود النفس. أما لوك فيتميز عن ديكارت في أنه لم يجعل قضية العلاقة بين النفس والجسم تعيقه عن مهمة البحث في الفهم الإنسانى. بدأ لوك بتناول عناصر الفهم الإنسانى مباشرة، من إدراكات حسية وأفكار وإحساسات وتصورات، دون أن يشغل نفسه كثيراً بالبحث في فسيولوجيا الذهن ذات الطابع السيكولوجى أو في الطبيعة العضوية للإدراك الحسى، وكان كل ما يهمه في المعرفة الإنسانية هو كيفية حدوث المعرفة للفهم البشرى، لا الطبيعة العضوية للتفكير والتى توقع دائماً في إشكالية الارتباط بين النفس والجسم. ينقسم كتاب المقال إلى أربعة أجزاء: الأول عن الأفكار الفطرية، والثانى عن الأفكار، والثالث عن الكلمات، والرابع عن المعرفة(6 ). في الجزء الأول ينتقد لوك الرأى القائل بالأفكار الفطرية بناء على أن الخبرات البشرية متعددة، وأن ما هو فطرى بالنسبة للبعض ليس كذلك بالنسبة للبعض الآخر، وأن أجناساً بشرية مختلفة تعتنق أفكاراً مختلفة وتعتقد في أنها فطرية، وأن البشرية كلها ليست مجتمعة على القول بأفكار فطرية واحدة. هناك شعوب لا تعتقد في وجود هذه الأفكار في الأصل، وهذا دليل على أنه ليس هناك إجماع بشرى عام على أفكار فطرية واحدة، إذ لو كانت هذه الأفكار الفطرية موجودة لكانت كل البشرية تعتقد فيها. لا ينشغل لوك بفحص الذهن البشرى ذاته من حيث تركيبه العضوى أو من حيث العمليات العقلية التى يقوم بها، بل ينطلق مباشرة نحو فحص عناصر المعرفة في الذهن البشرى من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات( 7). وهو يذهب إلى أن لكل الأفكار أصلها في الحواس باعتبارها المصدر الأول لتلقى الانطباعات والإدراكات. والأفكار عنده هى ما يشكل كل المعرفة الإنسانية، ولذلك ينطلق نحو البحث في «كيفية حضورها للذهن» ولا يجد سبيلاً تأتى به الأفكار إلى الذهن البشرى إلا عبر الإدراكات التى مصدرها الحواس. ولأن لوك قد رفض نظرية الأفكار الفطرية فقد ذهب إلى أن كل أفكارنا ترجع إلى الخبرة التجريبية. وعلى الرغم من ذلك فقد تمسك بمعنى واحد فقط للفطرية، فليست الأفكار هى الفطرية عنده بل ملكات الذهن من تذكر وتخيل ودمج بين الأفكار وبعضها، وكذلك الرغبة والإرادة. يبدأ لوك كتابه بتوضيح الهدف من تأليفه، ويذهب إلى أن الفهم هو الملكة التى تميز الإنسان عن باقى الكائنات الحية، ولذلك فإن البحث فيها له الأولوية القصوى، ذلك لأنه كما أن العين هى وسيلة الإنسان لرؤية الأشياء، فإن الفهم هو وسيلته في الإدراك والمعرفة( 8). وقبل أن ينشغل الفيلسوف بإنتاج أى نوع من المعرفة فإن الأولى هو البحث في الفهم الذى هو أداة المعرفة. وهكذا يفتح لوك مجالاً جديداً للبحث الفلسفى يختلف عن مجالات الفلسفة التقليدية، إذ كان كل مذهب فلسفى سابق يبدأ مباشرة بالبحث في قضايا الوجود وطبيعة الإنسان ومفهوم الحقيقة وواقعية العالم الخارجي ... إلخ، لكن يتوقف لوك عن وضع قضايا تخص هذه الموضوعات التقليدية كى يبدأ أولاً بالبحث في أداة المعرفة. وبالتالى فإن المبحث الأول في الفلسفة عند لوك يجب أن يكون بحثاً في المعرفة الإنسانية، حدودها ونطاقها وإمكانياتها. وبذهب لوك إلى أن الفهم الإنسانى يشتغل على موضوعاته مباشرة دون ملاحظة نشاطه ذاته، وما يجب البدء به هو وضع هذا الفهم الإنسانى نفسه موضع البحث. وعلى الرغم من أن هدف البحث عند لوك هو الفهم الإنسانى، إلا أنه لن يتناوله من منطلق دراسة فسيولوجية لوظائف المخ البشرى، ولن يبحث في الحواس أو في كيفية إدراكها للأشياء، بل سينطلق مباشرة إلى الكشف عن مكونات الفهم الإنسانى من أفكار بسيطة وأفكار مركبة، وصفات أولية وصفات ثانوية، والبحث في كيفية إدراكه لمفاهيم مثل الجوهر والسببية والصفات والأحوال. وسوف يكون منهج لوك في بحثه هو تتبع أصل الأفكار أو المفاهيم إلى مصادرها الأولى التى هى الإدراكات الحسية. وهدفه من ذلك هو بيان الحدود القصوى التى يمكن أن تصل إليها المعرفة البشرية، والتمييز بذلك بين المعرفة الصادقة ومجرد الرأى والاعتقاد( 9). وإذا وصل لوك إلى نطاق معرفى يتعدى قدرات الفهم الإنسانى فسوف يتوقف عن البحث فيه لأنه يتجاوز هذه القدرات، ويقصد بذلك موضوعات الميتافيزيقا التى لا تخضع للحواس أو الإدراك الحسى وتتجاوز بذلك حدود ما يمكن أن يعرفه الإنسان بوضوح وصدق ويقين. ذلك لأن لوك يعتقد في أن المعرفة الواضحة هى المعرفة المرتبطة بقدرات الفهم الإنسانى المرتبطة بالإدراك الحسى، أما المعرفة الميتافيزيقية فهى في نظره غامضة ومشوشة دائماً لأنها لا تعتمد على أى مصدر تجريبى. ويهدف لوك من ذلك إلى إمداد المعرفة بمقياس يستطيع الإنسان به التفريق بين المعرفة الواضحة والمعرفة الغامضة أو المشوشة، والتمييز بين الصدق واليقين من جهة والرأى والاعتقاد من جهة. وما دفع لوك نحو ذلك ما لاحظه من إختلاف المفكرين حول موضوعات المعرفة وعدم قدرتهم على الوصول إلى اليقين في موضوعات الميتافيزيقا، فأراد في مواجهة هذا الخلاف الوصول إلى الوضوح واليقين في المعرفة، ولم يجد لذلك من سبيل سوى ربط المعرفة الإنسانية بأصولها في الإدراك الحسى الذى هو عنده يتمتع بالوضوح. وبذلك تكون الأفكار الواضحة عنده هى الأفكار ذات المصدر الحسى والمرتبطة بالإدراك الحسى، والأفكار الغامضة هى تلك التى تتجاوز نطاق الخبرة التجريبية.[11]

نقد نظرية الأفكار الفطريةعدل

لا يستقبل الذهن البشرى إلا الإحساسات والإدراكات الحسية والأفكار، أما مفاهيم العلاقة والسببية والجوهر والأعراض والأحوال فلا يستقبلها الذهن من الخبرة بل يتوصل إليها عن طريق التركيب والدمج بين ما تلقاه من مدركات. وبينما يكون استقبال الذهن للمدركات مجرد تلقٍ سلبى لها، فإن العلاقة والسببية والجوهر والأعراض تعبر عن الدور الفاعل للذهن. الحواس سلبية والذهن إيجابى، الحواس متلقية ومستقبلة والذهن فاعل ونشط( 10). وعلى هذا تكون كل المفاهيم العقلية معبرة عن نشاط الذهن الإنسانى في التركيب بين المدركات، وتكون كل علاقة منها هى الطريقة الخاصة التى ترتبط بها المدركات في العقل. فالسببية مثلاً هى ربط الذهن بين حادثة وأخرى تكون الأولى سبباً للثانية، والجوهر هو علاقة بين الصفات وحاملها الذى هو الجسم المادى، وتكون علاقة الجوهر والعرض هى ربط الذهن بين صفات أولية مثل الامتداد والصلابة وصفات ثانوية مثل اللون والرائحة والطعم. وعلى هذا تتحدد فاعلية الذهن البشرى بما يستقبله من إدراكات، أما هذا الذهن نفسه وبدون مدركات يتلقاها من الحواس فهو مثل الصفحة البيضا tabula rasa الخالية من أى تحديد أو علامات مسبقة موروثة أو فطرية وتأتى الخبرة التجريبية لتكتب عليها ما تشاء. لكن يجب أن ننتبه إلى أن استخدام لوك لتعبير الصفحة البيضاء غير دقيق ولا يتفق مع نظريته في المعرفة. لقد ذهب لوك إلى أن الذهن البشرى صفحة بيضاء كى يؤكد على أنه يدخل في التجربة وهو غير محمل بأى أفكار مسبقة أو فطرية وأن كل ما في هذا الذهن مصدره التجربة والخبرة التجريبية، لكن هذا التعبير غير صحيح إذا جعلنا نعتقد أن الذهن مجرد متلق سلبى للإدراكات، ذلك لأنه كما رأينا فاعل ونشط، يركب ويدمج بين الإدراكات ليقيم بينها علاقات وكذلك فإن أفعال الذهن هى مصدر لأفكار جديدة غير موجودة في التجربة. فإذا بحثنا في مفهوم السببية أو مفهوم القوام أو الجوهر والعرض فلن نجدها حاضرة جاهزة في التجربة، بل هى نتاج لنشاط الذهن في التركيب والدمج بين الإدراكات على نحو معين. ليس الذهن صفحة بيضاء لأنه هو نفسه يعد مصدراً لمفاهيم غير موجودة في التجربة. ولذلك ليست تلك الصفحة بيضاء تماماً، إذ نجد فيها مفاهيم مكتوبة عليها غير موجودة في التجربة، والذهن نفسه مصدرها، لكن وفى نفس الوقت يذهب لوك إلى أن المفاهيم العقلية المجردة لم تكن لتوجد في الذهن لولا احتكاكه بالتجربة، إذ لو لم استقبل الذهن البشرى أشياء تكون سبباً لأشياء أخرى، أو أشياء تكون متغيرة مثل اللون بالنظر إلى الثابت وهو الجسم الممتد لما توصل إلى مفاهيم مثل السببية والجوهر والأعراض. ويطلق لوك مصطلح «الفكرة» Idea على كل عناصر وموضوعات الفهم، سواء كانت تصورات أو تمثلات حسية أو مقولات أو كليات( 11)، ومبرر لوك في هذه التسمية الواسعة أن كل هذه المفاهيم هى الموضوعات التى يفكر فيها الفهم الإنسانى. فكل ما يتناوله الفهم بالتفكير ويكون موضوعاً لوظائفه يسميه فكرة. وأول ما يقوم به لوك هو البحث في مصدر أو أصل الأفكار، ولأن مصدر الأفكار عند لوك هو الإدراك الحسى والخبرة التجريبية فهو يبدأ بنقد النظرية القائلة أن في العقل البشرى أفكار فطرية يولد بها ويمتلكها من ذاته دون أن يستقيها من أى مصدر خارجي، أى النظرية المعروفة بنظرية الأفكار الفطرية. وأول من قال بهذه النظرية هو أفلاطون، وأبرز من قال بها من المحدثين ديكارت، وفى عصر لوك تم إحياء هذه النظرية في إنجلترا وخاصة من قبل بعض المفكرين في جامعة كيمبردج والذين يطلق عليهم اسم «أفلاطونيو كيمبردج»( 12). تنص هذه النظرية على أن في العقل البشرى أفكار فطرية يولد بها ولا ترجع بأصولها إلى الخبرة التجريبية، مثل كل الأفكار العامة عن الكليات مثل الجنس والنوع والكل والأجزاء والجوهر والسببية، وحتى على المستوى الأخلاقى فهناك اعتقاد في وجود أفكار أخلاقية فطرية مثل العدالة والفضيلة والسعادة. يبدأ لوك كتابه بتوضيح أن ما تعارف عليه دائماً على أنه أفكار فطرية ليس كذلك بل ترجع هذه الأفكار كلها إلى الخبرة التجريبية. وينكر لوك وجود أى أفكار فطرية في العقل البشرى، وطريقته في نقد النظرية القائلة بالأفكار الفطرية هى أن يوضح: 1 - أن الأفكار التى يعتقد أنها فطرية ليست كذلك بل ترجع إلى الخبرة التجريبية. 2 - أننا قادرين على تكوين معرفة دون الاستعانة بأى أفكار فطرية وبالاعتماد على التجربة والخبرة التجريبية وحدها( 13). وأول دليل تستند عليه نظرية الأفكار الفطرية هو دليل الإجماع والإتفاق، إذ تذهب هذه النظرية إلى أن كل البشر مجمعون ومتفقون على مجموعة من الأفكار يعتقدون أنها فطرية، مثل أن الشئ الواحد لا يمكن أن يوجد وأن لا يوجد في نفس الوقت؛ أو بتعبير المناطقة أن أ لا يمكن أن تكون أ ولا أ في نفس الوقت، وأن المساويان لثالث متساويان وأن الكل أكبر من أجزاءه. ويرد لوك على هذه الحجة بقوله إن هذه الأفكار لا يوجد حولها الإجماع أو الاتفاق المفترض فيها، ذلك لأن الأطفال والمجانين لا يعتقدون فيها، فالطفل يمكن أن يقبل بسهولة وجود الشئ وعدم وجوده في نفس الوقت، كما أنه لا يعرف أن المتساويان لشئ واحد متساويان بالنسبة لبعضهما. ومعنى هذا أنه إذا كانت هناك أفكار فطرية مطبوعة في النفس الإنسانية فيجب أن يعرفها الأطفال، أو أن يعرفها الهمج والبرابرة الذين لم ينالوا قسطاً من الحضارة والتمدن. فالطفل لا يمكنه أن يعرف مثل هذه الأفكار إلا بالتعلم ولا يمكن أن يتوصل إليها بنفسه، وكونه لا يتوصل إليها إلا بالتعليم يعنى أنها في حاجة إلى الخبرة وإلى البرهنة على وجودها، وما يفتقر إلى البرهان والتعلم لا يمكن أن يكون فطرياً. ويدلل أصحاب نظرية الأفكار الفطرية على صحة نظريتهم بقولهم إن العقل يكتشف الأفكار الفطرية بذاته ودون حاجة إلى أى خبرة تجريبية، ويرد عليهم لوك قائلاً إن اكتشاف العقل لها لا يعد دليلاً على فطريتها، إذ معنى هذا أن النظريات الرياضية فطرية تماماً مثل المسلمات والبديهيات التى تنطلق منها، ومحال أن تكون النظريات الرياضية فطرية، لأننا لا نعرف بالفطرة أن مجموع زوايا المثلث تساوى 180 درجة أو أن المثلث ذو الزاويتين المتساويتين لديه ضلعين متساويين( 14). فعلى الرغم من أن هذه النتائج قد توصلنا إليها بالاستنباط من بديهيات سابقة عليها إلا أنها ليست فطرية، فليس كل ما يكتشفه العقل فطرى، ذلك لأن استخدام العقل ذاته في البرهان والاستنباط يعد نوعاً من الخبرة المرتبطة بالتجربة. ويؤكد لوك على صحة نقده هذا بقوله إنه إذا كانت الأفكار فطرية فكيف إذن احتاجت إلى البرهان وإعمال العقل لاكتشافها؟ وإذا كانت فطرية فلماذا لم يعرفها العقل مباشرة قبل استخدامه للبرهان؟ إذ معنى هذا هو أن في العقل أفكار فطرية لا يعرفها قبل اكتشافها في البرهان، أو القول بأن العقل يعرف ولا يعرف الأفكار الفطرية في نفس الوقت، وهذا تناقض. إن اكتشاف العقل للأفكار الفطرية يعد تناقضاً، ذلك لأن استخدام العقل ذاته في التوصل إليها لا يجعلها فطرية بل يجعلها نتاج استخدام هذا العقل. ولذلك يشرح لوك كيف يتوصل العقل إلى الأفكار العامة من الخبرة التجريبية؛ تبدأ الحواس أولاً في إمداد العقل ببعض الانطباعات التى يفهمها العقل على أنها أفكار، وعندما يعتاد عليها العقل تصبح محفوظة في الذاكرة ويضع لها العقل أسماء، ثم يقوم العقل بتجريد هذه الأفكار للوصول إلى العام والمشترك بينها ويضع لها اسماً( 15)، ويكون هذا الاسم فكرة عامة، وعندما يتوصل العقل أو ينتج الأفكار العامة يستخدمها في تفكيره. ومعنى ذلك أن الأفكار العامة هى نتاج للنشاط التجريدى والتعميمى للعقل وليست فطرية أبداً، لأنها ليست سوى تجريد للأفكار البسيطة التى يتلقاها العقل من الحواس. ويذهب لوك إلى أن الإجماع على كون بعض الأفكار فطرية لا يقف دليلاً على فطريتها، ذلك لأن أصحاب هذه النظرية ينظرون إلى الرياضيات على أنها فطرية، فمثلاً ينظرون إلى 3 + 4 = 7 على أنها فطرية وهى ليست كذلك. فالطفل لا يتوصل إليها إلا بعد أن يمارس الجمع ويدرك مفهوم التساوى، وهم يقولون إنه بمجرد ما أن يصل العقل إلى هذه النتيجة حتى يحدث الإجماع حول بداهتها وفطريتها( 16). لكن يتناسى هؤلاء أن ما تم الإجماع عليه ليس سوى نتيجة لفعل الجمع الذى ينتمى إلى التجربة، ولذلك فإجماعهم على ما يعد نتيجة خبرة تجريبية باعتباره فطرياً يعد تناقضاً، فالإجماع لا يعد دليلاً على فطرية أفكار توصلنا إليها بالتجربة. صحيح أننا لا نحتاج إلى التجربة، أى إلى فعل العد والجمع كلما فكرنا في 3 + 4 من ناحية و7 من ناحية أخرى، إلا أن هذا بسبب اعتياد العقل على هذه الفكرة بعد أن تعلمها، ويشير إلى استغناء العقل عن ممارسة فعل العد والجمع بعد أن مارسه للمرة الأولى. واعتياد العقل على هذه النتيجة هو ما يجعله يأخذها باعتبارها مسلمة أو بديهية أو فطرية في حين يكون مصدرها الخبرة التجريبية. وفكرة التساوى بين عددين وعدد ثالث ليست فطرة بأى حال من الأحوال، لأن العقل لا يدرك مفهوم التساوى إلا بعد أن يمارس فعل الجمع نفسه ويكتشف التساوى من الخبرة التجريبية. ومثلما يرفض لوك وجود أفكار فطرية في العقل فهو أيضاً ينكر وجود مبادئ أخلاقية فطرية. والحقيقة أن نظرية لوك في هذا الشأن تتصف بشئ من الغرابة، ذلك لأنه ينكر أن تكون الفضيلة قيمة فطرية، في حين يُعتقد دائماً أنها قيمة عليا واضحة بذاتها، لكن على العكس من الاعتقاد الشائع حول أسبقية الفضيلة وقيمتها القبلية الفطرية، يذهب لوك إلى أنها ليست كذلك. ذلك لأن الفضيلة وجودها نادر في العالم الإنسانى، ولا يتوصل إليها الإنسان إلا عندما يتفاعل مع الآخرين ويعرف الصواب والخطأ ويميز بين البشر على أساس سلوكهم، وهذه كلها خبرات تجريبية، فحسب لوك نحن نعرف الفضيلة من خبرتنا بالسلوك وتفاعلنا مع الآخرين. والفضيلة عنده ليست فطرية لأن من عادة البشر أن يسلكوا حسب المصلحة الشخصية وحسب مبدأ جنى المنفعة وتجنب الخسارة وتعظيم الثروة والسعى نحو اللذة وتجنب الألم. فإذا كانت الفضيلة فطرية لرأينا كل الناس فضلاء، لكن الأمور تسير عكس ذلك، وإذا كانت فطرية لرأينا الناس يمتلكون تعريفاً واحداً واضحاً ومتميزاً عن الفضيلة، في حين أن مفهوم الفضيلة غامض لدى الكثيرين( 17)، ولا يمكن أن تكون الفكرة الغامضة والتى ليس عليها اتفاق في تعريفها فطرية، أما المبادئ الأخلاقية فليست فطرية، ذلك لأن كل أمة لديها المبادئ الأخلاقية الخاصة بها والمختلفة عن باقى الأمم، بل إن الشعوب المختلفة تعتنق مبادئ أخلاقية متناقضة؛ فالصواب عند أمة يمكن أن يكون خطأ عند أمة أخرى، والخطأ عند أمة يمكن أن يكون صواباً عند أمة أخرى. وإذا كانت المبادئ الأخلاقية فطرية فلماذا نراها تنتهك ولا تُتَّبع لدى غالبية الشعوب؟ إن كل ذلك يثبت أنها ليست فطرية. رابعاً - طبيعة وأصل الأفكار : يذهب لوك إلى أن الأفكار هى العناصر التى يشتغل عليها التفكير، وهى أيضاً المادة الأولى التى يصنع منها العقل أفكاراً أخرى مركبة. ويطلق لوك مصطلح «الأفكار» Ideas على طائفة كبيرة من التصورات والمفاهيم بصرف النظر عن مدى عموميتها أو درجة تجريدها، فالأفكار عنده تضم كلمات مثل «البياض، الصلابة، الحلاوة، التفكير، الحركة، الإنسان، الفيل، الجيش، السُكْر». والملاحظ أن هذه الكلمات منها ما يرتبط بالإحساس مثل البياض والصلابة والحلاوة، ومنها ما يرتبط بالكليات المجردة مثل الإنسان، وما يرتبط بالنوع بالمعنى البيولوجى مثل الفيل والإنسان، ومنها ما يرتبط بالصفة التى تجمع مجموعة من البشر مثل الجيش، وما يرتبط بالوعى والشعور مثل السُكْر( 18). ومعنى هذا أن لوك لا يميز بين التصور التجريبى والتصور المجرد والشعور، بما أنه يعتبر أن الصلابة والحركة والسُكْر كلها أفكار. وما يجعله يضم هذه الطائفة الكبيرة من التصورات تحت مسمى «الأفكار» هو أنها جميعاً أدوات العقل في التفكير. ويتساءل لوك بعد ذلك عن مصدر هذه الأفكار، ومن أين تأتى؟، ويذهب إلى أننا لو افترضنا أن العقل صفحة بيضاء، أى خالية من أى أفكار فطرية أو مسبقة، فإن المصدر الوحيد الذى تأتى به هذه الأفكار للعقل هو الخبرة experience. هذه الخبرة إما أن يكون مصدرها الإحساس أو العمليات الذهنية. فأفكار مثل الصلابة والحلاوة والامتداد يكون مصدرها الإحساس، وأفكار مثل الشك والاعتقاد والاستدلال والمعرفة والإرادة يكون مصدرها هو إدراك العقل للعمليات الذهنية التى يقوم بها. فعندما أفكر في نشاطى الذهنى ألاحظ أننى إما أن أتمسك بشئ ويكون هذا اعتقاداً أو أشك في وجوده أو صدقه ويكون هذا شكاً، أو تكون لدى عنه معلومات وتكون هذه معرفة، وعندما ألاحظ أن عقلى ينتقل من مقدمة إلى نتيجة تلزم عنها يكون هذا استدلالاً. ويذهب لوك أن الإحساس وإدراك العمليات الذهنية هما المصدران الوحيدان لما يحتويه العقل من أفكار. كما أن طبيعة الأفكار تنقسم إلى نوعين حسب هذين المصدرين، فهما إما أفكار عن الإدراك الحسى أو أفكار عن العمليات الذهنية. ويلاحظ لوك أن أفكار الإدراك الحسى هى التى تأتى للعقل أولاً تتبعها أفكار العمليات الذهنية، ذلك لأن هذا هو نفس الترتيب الذى يحدث للأطفال، إذ أنهم لا يدركون أفكار العمليات الذهنية إلا بعد أن يحصلوا على أفكار الإدراك الحسى( 19)، وهذا بسبب أن أفكار الإدراك الحسى يتلقاها الأطفال بتلقائية ومباشرة، أما أفكار العمليات الذهنية فهى في حاجة إلى التفكير والانتباه والانعكاس على النشاط الذهنى، فيجيب أن ينشط الذهن أولاً بتلقى الإحساسات التى تتحول فيه إلى أفكار كى ينعكس الذهن على ما يقوم به من نشاط تفكيرى. كما أن النفس البشرية لا تحصل على الأفكار إلا بعد الإدراك الحسى، ولا تنشغل هذه النفس بالتفكير دائماً، لأن التفكير في العمليات الذهنية يحتاج إلى التأمل والانتباه، وهذا ما لا يحدث دائماً. لوك إذن يعطى الأولوية للإدراك الحسى الذى يتلقى به الذهن الأفكار، ثم يأتى التأمل والانتباه في العمليات الذهنية بعد أن يكون الذهن حاصلاً على أفكا رمن الإدراك الحسى. والحقيقة أن لوك يقر بأن هذا التراتب: إدراك حسى - أفكار - عمليات ذهنية - أفكار عن العمليات الذهنية، هو تراتب في الدرجة وفى الزمن، أى تراتب إبستمولوجى على مستوى نظرية المعرفة وتراتب سيكولوجى أو سيكومعرفى على مستوى التطور المعرفى للطفل؛ وهذا ما سوف يظهر بعد ذلك لدى الإبستمولوجيا التطورية عند جان بياجيه.[11]

الأفكار عند لوكعدل

ما يتلقاه العقل البشرى من الإحساس أو الانعكاس على العمليات الذهنية ينقسم إلى أفكار بسيطة وأفكار مركبة. الأفكار البسيطة هى الأفكار المرتبطة بصفات الشئ المحسوسة مثل الصلابة والبرودة والامتداد والشكل. أما الأفكار المركبة فليست حاضرة في الشئ المحسوس نفسه بل يستخلصها العقل منه مثل الجوهر والأعراض، والسبب والنتيجة، والزمان والمكان والحركة( 20). ومعنى ذلك أن الذهن يكون سلبياً في تلقيه للأفكار البسيطة، ونشطاً فاعلاً في إنتاجه للأفكار المركبة، ذلك لأنها تكون نتيجة تفكير حول العلاقات بين ما يتلقاه من أفكار بسيطة، فالسببية علاقة بين شئ وآخر يدركها العقل في تفكيره حولهما معاً، والجوهر وأعراضه أيضاً فكرة مركبة تنتج في العقل من تفكيره حول العلاقة بين الشئ وصفاته وما هو دائم أو متغير من هذه الصفات. الأفكار عند لوك نوعان: بسيطة ومركبة، البسيطة يتلقاها الذهن مباشرة من الإدراكات الحسية، ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة يساء فهمها لدى لوك وهى نشأة الأفكار البسيطة. اعتقد الكثير من نقاد لوك والمذهب التجريبى عامة أن الأفكار عنده مصدرها الحواس أو الإحساسات، لكن لوك لا يقول بذلك، بل يقول بأن مصدر الأفكار هو الإدراكات الحسية. هناك فرق كبير بين أن تكون الحواس هى مصدر الأفكار وأن تكون الإدراكات الحسية هى ذلك المصدر. إن الأفكار، حتى وإن كانت بسيطة، هى صور ذهنية بسيطة ومباشرة للأشياء وليست إحساسات. فالكرة الحمراء مثلاً إدراك حسى تستقبله الحواس، أما اللون الأحمر نفسه فهو فكرة، صورة ذهنية مجردة، يتوصل إليها الذهن البشرى من تلقيه لإدراك حول الأشياء الحمراء( 21). الأفكار البسيطة إذن لا يتلقاها الذهن جاهزة من الخبرة بل هى تتضمن درجة من التعميم أو العمومية، ذلك لأن الأمثلة التى يضربها للأفكار البسيطة كلها عموميات، مثل الأحمر، الأخضر، الرطب، اليابس، الحار. بإدراكنا لأشياء كثيرة حمراء ندرك أن الأحمر لون، هذه فكرة بسيطة لكن أتت عن طريق التعميم، ولذلك فالأحمر فكرة عامة، ولذلك فهى بسيطة، تنطبق على كل الأشياء الحمراء. ولذا أطلق عليها لوك فكرة ولم يسميها إدراك أو إحساس. الإحساس هو بالشئ الأحمر، أما الأحمر كلون فهو فكرة بسيطة. أما الأفكار المركبة فهى مثل العلاقة والسببية والجوهر والأعراض، وهى ناتجة عن التركيب والدمج بين أفكار بسيطة، الأفكار المركبة إذن تعبر عن نشاط ذهنى أنتجها لكنها ليست حاضرة جاهزة في المدركات الحسية. تنقسم الأفكار البسيطة عند لوك إلى أفكار تأتى من حاسة واحدة مثل الألوان التى تأتى من حاسة البصر، والسخونة والبرودة والنعومة والخشونة التى تأتى من حاسة اللمس، والروائح التى تأتى من حاسة الشم، والأصوات التى تأتى من حاسة السمع، وأفكار تأتى من أكثر من حاسة واحدة مثل المكان والامتداد والشكل والسكون والحركة، ذلك لأننا ندرك المكان من حاستى البصر واللمس، بأفكار تأتى من الانعكاس على العمليات الذهنية reflection، وهو تفكير العقل في أفكاره التى حصل عليها من الإدراك الحسى( 22). فعندما يتأمل العقل في الكيفية التى يتعامل بها مع الأفكار يدرك أنه يقوم إما بإدراك حسى أو استدلال أو حكم أو تمييز وتفريق ومقارنة أو تذكر. أما الأفكار التى تأتى من الإحساس والانعكاس معاً فهى اللذة والألم، لأنهما يبدآن بإدراك حسى معين يتبعه شعور بالارتياح أو عدم الارتياح يأتى من الانعكاس على ما تلقته الحواس؛ وكذلك القوة، إذ بعد أن يلاحظ العقل تأثير جسم ما على أجسام أخرى يدرك أن فيه قوة على هذا التأثير، والتتابع أيضاً succession لأن العقل بعد أن يستقبل إحساسات معينة يلاحظ ما بينهما من علاقة تتابع، أى أنها تتبع بعضها البعض ويكون بعضها قبل بعض أو بعد بعض. ويذهب لوك إلى أن الأفكار البسيطة في العقل تقابلها صفات في الأجسام، بمعنى أن العقل يستقبل من الأجسام صفاتها التى تتحول فيه إلى أفكار. وهو يقر بأن لكل من الأفكار وصفات الأجسام طبيعة مختلفة، فالأفكار من طبيعتها أن تكون ذهنية ومجردة، والصفات من طبيعتها أن تكون حسية، لكن الأفكار البسيطة هى في النهاية انعكاس ذهنى لصفات الأشياء، كما لو أن العقل الإنسانى مرآه تنعكس عليها صفات الأشياء( 23). ومن طبيعة المرآة أن تعكس صورة ولا تعيد إنتاج الشئ الحقيقى، وبالمثل فإن العقل هو مرآة الأشياء، حيث أن الأفكار البسيطة فيه هى مجرد صور ذهنية منعكسة لصفات الأشياء. كما يذهب لوك إلى أن ما يجعل صفات الأشياء تنعكس في العقل منتجه فيه أفكاراً هى قوة power متضمنة في هذه الأشياء، أى أن في الأشياء قوة تؤثر بها على العقل. ومعنى هذا أن العقل يكون سلبياً تماماً في تأثره بما في الأشياء من قوة تؤثر عليه، أما عندما يتأمل في هذه الأفكار البسيطة وينتج منها أفكاراً مركبة فهو يكون فاعلاً نشطاً. العقل إذن سلبى في تلقى الأفكار البسيطة والتأثير في ذلك بقوة الأشياء عليه، وإيجابى وفاعل ونشط في تركيبه بين هذه الأفكار البسيطة والوصول إلى أفكار مركبة. ويميز لوك بين الصفات الأولية primary qualities والصفات الثانوية secondary qualities. الصفات الأولية هى الصفات التى يمتلكها الجسم في ذاته ولا يمكن أن تنفصل عنه وتؤثر بقوتها مباشرة على العقل، مثل الامتداد والشكل والصلابة( 24). فإذا قمنا بتقسيم جسم ما إلى أجزاء صغيرة لا يضيع الامتداد أو الصلابة أو الشكل بل تظل هذه الصفات في كل جزء صغير منه، حتى لو قمنا بطحن حبة من القمح وأصبحت كماً من الدقيق، فعلى الرغم من أن كل ذرة فيه غير محسوسة إلا أنها تظل تتصف بنفس صفات الامتداد والشكل والصلابة التى لحبة القمح. أما الصفات الثانوية فهى ليست مرتبطة بالجسم بل هى قوة متضمنة فيه تعمل على إنتاج إحساسات معينة في العقل، مثل اللون والرائحة والطعم، فالجسم يمكن أن يتغير لونه وطعمه ورائحته ويبقى مع ذلك نفس الجسم، وتكون هذه الصفات الثانوية هى تأثر العقل به. ويذهب لوك إلى أن في الأشياء قوة معينة تجعلنا نتأثر بها وتنتج فينا هذه الصفات الثانوية. ومعنى هذا أن الصفات الثانوية ليست مجرد أوهام أو أفكار متخيلة تنتج في الذهن دون أى ارتباط أو علاقة حقيقة بينها وبين الشئ المدرك، ذلك لأن من طبيعة هذا الشئ نفسه أن يحدث تأثيراً معيناً في حواسنا يتمثل في صورة صفات ثانوية. والحقيقة أن هذا الرأى يعد أثراً من آثار أرسطو غير المصرح بها في فلسفة لوك والتى تسربت إلى نظريته في المعرفة دون وعى منه. ذلك لأن النظر إلى الصفات الثانوية على أنها تأثر الحواس البشرية بالشئ المدرك نتيجة امتلاك هذا الشئ لطبيعة أو قوة تؤثر في الحواس هو عودة مرة أخرى إلى مفهوم الطبائع والقوى الكامنة في الأشياء الموجودة بوضوح في فلسفة أرسطو.[11]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق