العمليات الذهنيةعدل
يقسم لوك العمليات الذهنية إلى أنواع عديدة تبعاً لنظريته حول الأفكار البسيطة والأفكار المركبة. فهناك عمليات ذهنية مرتبطة بالأفكار البسيطة، أولها الإدراك الحسى، وهو أول مرحلة في التفكير. وعلى الرغم من أن الإدراك الحسى perception عملية ذهنية تتضمن التفكير، إلا أنه ليس تفكيراً بالمعنى الحرفى للكلمة، إذ لا ينطوى على الفاعلية والنشاط بل يتضمن السلبية والتلقائية، أى أن الإدراك الحسى هو التفكير السلبى الذى يقتصر على تلقى الإحساسات كما هى دون أن يتعامل معها بالربط بينها ودون أن يكتشف فيها أى علاقات( 25). وعلى الرغم من أن الإدراك الحسى ملكة سلبية متلقية، إلا أن لوك يضيف إليه شيئاً من الفاعلية، وبذلك لا تكون سلبية تماماً، فغالباً ما يتم تعديل الإحساس عن طريق فعل تلقائى للذهن. فالأشياء البعيدة تبدو صغيرة، وعلى الرغم من ذلك يعرف الذهن أنها ليست صغيرة كما تبدو لأنها سوف تظهر بحجمها الحقيقى عندما تقترب. هذا التعديل للإدراك الحسى يتم بتلقائية وبدون وعى كامل من الذهن، ولأنه تعديل تلقائى غير واعى فإن لوك لا يلحقه بأى ملكة أعلى من الإدراك الحسى نفسه. وتعديل الإدراك الحسى هذا يسميه لوك حكماً judgment قاصداً منه أن عملية الإدراك تنطوى في ذاتها على حكم، وهو حكم عقلى، لأن العقل يحكم على الشئ البعيدة الصغير بأنه كبير في حقيقته على الرغم من الصغر الذى يبدو عليه( 26). وعلى الرغم من أن الحكم فعل عقلى إلا أنه لا يتضمن نشاطاً مقصوداً كملكة الفهم بل هو فعل تلقائى لملكة الإدراك الحسى. ومعنى هذا أن هناك حكماً يقع في نطاق الإدراك الحسى السلبى، وهذا النوع من الحكم سابق في وجوده وأولويته على الحكم بالمعنى المعرفى الإبستمولوجى الذى يقوم به الفهم. والحقيقة أن هذه الفكرة تعد من إنجازات لوك الكبرى، ذلك لأن النظريات السابقة عليه في المعرفة كانت دائماً ما تنظر إلى الحكم على أنه فعل للفهم والعقل فقط، أما لوك فقد اكتشف وجود الحكم في مستوى الإدراك الحسى نفسه، وهو يعد حكماً من نوع مختلف عن حكم الفهم والعقل. وثانى عملية ذهنية يقوم بها العقل بعد الإدراك الحسى هى الاستبقاء retension وهى الاحتفاظ بالأفكار البسيطة التى تلقاها العقل من الإحساس، ويتم هذا الاحتفاظ بطريقتين: الانتباه إلى هذه الأفكار ذاتها كما هى موجودة في العقل contemplation، والذاكرة memory أى الاحتفاظ بالأفكار البسيطة في الذاكرة بعد أن تكون الإحساسات التى أنتجتها قد غابت عن أعضاء الإحساس. والذاكرة هى القوة التى نستطيع بها إحياء الأفكار في الذهن بعد أن غابت إحساساتها. ويطلق لوك على الذاكرة اسم «مخزن أفكارنا». وقوة الذاكرة هذه ضرورية ولا غنى عنها للتفكير، ذلك لأنه بفضلها لا تختفى الأفكار مع إختفاء الإحساسات التى أنتجتها بل تظل محفوظة فيها حتى يتم إنعاشها مرة أخرى. والملاحظ أن لوك في هذا السياق لم يميز بوضوح بين احتفاظ الذاكرة بالأفكار وإعادة إنعاشها بتذكرها مرة أخرى( 27)، ذلك لأن القدرة على الاحتفاظ في الذاكرة مختلفة عن القدرة على تذكر هذه الأفكار وإنعاشها مرة أخرى. ومعنى هذا أن في الذاكرة قوتين متمايزتين، قوة الحفظ وقوة التذكر أو إعادة التفكير في الأفكار السابقة. قوة الحفظ قوة تلقائية سلبية لأنها تتلقى الأفكار فقط وتخزنها، وهذا لا ينطوى على أى فاعلية نشطة أو مقصودة للذهن، أما قوة التذكر وإعادة إحياء الأفكار مرة أخرى فهى قوة فاعلة نشطة تتم عن قصد. والحقيقة أن هذا التمييز بين قوتين في الذاكرة سوف يقوم به كانط بعد لوك بأكثر من قرن، وسوف يؤكد عليه هوسرل بعد كانط بأكثر من قرن أيضاً. ثم يشرح لوك بعد ذلك عدداً من العمليات الذهنية التى تشتغل على الأفكار البسيطة وهى كلها تنطوى على التعرف الدقيق والواضح على هذه الأفكار، وهو يجعل كل هذه العمليات تنتمى إلى الإدراك الحسى لأنه بدونها لن يحصل العقل على صورة دقيقة عن الأشياء. هذه العمليات هى الفصل والتمييز discerning / distinguishing. فإذا لم يتمكن الذهن من إقامة فصل وتمييز بين الإحساسات وما يقابلها من أفكار بسيطة فلن يكون لديه إدراك حسى كامل ودقيق، مثل الفصل والتمييز بين الإحساسات المتناقضة: الحرارة والبرودة، والحلاوة والمرارة، والكبير والصغير ... الخ( 28). ثم تأتى بعد ذلك عمليات المقارنة والدمج والتسمية comparing / compounding / naming. عن طريق المقارنة يميز العقل الامتداد والدرجات، فهو يدرك الأطول والأقصر عن طريق المقارنة على أساس الامتداد، ويدرك درجات اللون الواحد على أساس المقارنة بين الألوان عن طريق الدرجات اللونية، ويدرك الترتيب بين السابق واللاحق عن طريق المقارنة على أساس الزمان أو المدة، ويدرك العلاقات المكانية عن طريق مقارنة الأشياء بعضها ببعض حسب المكان. ويعد فعل المقارنة من الأفعال الهامة للغاية عند لوك لأنه هو القوة التى تنتج في الذهن أفكار العلاقة relation( 29 )، فالدرجة والزمان والمكان كلها أفكار عن علاقات، أما الدمج فهو جمع وإضافة أفكار من نفس النوع إلى بعضها، مثل إضافة عدد إلى عدد للوصول إلى مجموعهما، أو مد خط مستقيم للحصول على خط أطول ... الخ، أو الدمج بين عدد كبير من الأشجار للحصول على مفهوم الغابة. والتسمية هى وضع كلمة أو علامة صوتية ذات معنى تشير إلى مجموعة من الأشياء بينها شئ مشترك، مثل تسمية مجموعة من الأشجار بالغابة، أو تسمية مجموعة من الأغنام بالقطيع، أو تسمية مجموعة من الزهور والنباتات بالحديقة، أما آخر عملية ذهنية يشرحها لوك تحت ملكة الإدراك الحسى فهى التجريد abstraction وهى إدراك العام والمشترك بين أشياء متشابهة في صفة ما ووضع اسم عام لها، مثل إدراك البياض الذى هو صفة تجمع الأشياء البيضاء، وإدراك الشكل الكروى الذى يجمع أشياء تتصف بهذا الشكل مثل الشمس والقمر وكرة القدم. ومن الملاحظ أن التجريد هو أعلى العمليات الذهنية التى تقع في نطاق الإدراك الحسى، فبدون التجريد لن يصبح الإدراك الحسى كاملاً ودقيقاً( 30). لكن التجريد هو في نفس الوقت أول عملية ذهنية تنتمى لملكة الفهم، ومعنى هذا أن التجريد هو الصفة الحقيقة التى ينتقل بها الذهن من الإدراك الحسى إلى الفهم، وهو أيضا ًأول عملية يستطيع بها الفهم الوصول إلى الأفكار المركبة، ذلك لأن الأسماء العامة والتصورات والمفاهيم المجردة أفكار مركبة. لكن يصر لوك على اعتبار أن التجريد عملية ذهنية تعمل في نطاق الإدراك الحسى والفهم معاً، فهو قوة إدراك وقوة فهم في نفس الوقت، قوة تتعامل مع الأفكار البسيطة وبذلك تكون منتمية إلى الإدراك الحسى وكامنة في نطاقه، وقوة تنتج الأفكار المركبة وبذلك تكون منتمية في نفس الوقت إلى ملكة الفهم، ذلك لأن التجريد يعد من أولى العمليات الذهنية التى يقوم بها الفهم.[11]
الأفكار المركبةعدل
يصنعها العقل من الأفكار البسيطة عن طريق العمليات الذهنية التى يقوم بها. ومعنى هذا أن الأفكار المركبة ليست مجرد صور ذهنية عن الأشياء مثل الأفكار البسيطة بل هى من إنتاج العقل( 31). وليس معنى كونها من إنتاج العقل أنها مجرد أوهام بل هى حقيقية، وكل الاختلاف بينها وبين الأفكار البسيطة أن الأفكار البسيطة تشير مباشرة إلى الأشياء، ذلك لأن الإحساس هو مصدرها، بينما لا تشير الأفكار المركبة إلى إحساسات بل إلى أفكار بسيطة أخرى. وفى العقل طائفة كبيرة من الأفكار المركبة مثل الجيش، لأنه يشير إلى مجموعة من الجنود. إن مجموعة الجنود عبارة عن أفراد، كل فرد واحد منها جندى واحد، والإحساس التى يتلقاه المرء وهو ينظر إلى هذه المجموعة عبارة عن أفراد جنود متجمعين معاً، أما كون هذه المجموعة تشكل جيشاً ففكرة مركبة يتوصل إليها العقل عن طريق إضافة هؤلاء الأفراد المتشابهين إلى بعضهم، فالإدراك الحسى لا يرى شيئاً اسمه الجيش أمامه، بل يرى جنوداً، والعقل هو الذى يفهم معنى كلمة جيش لا الحواس. والجمال أيضاً فكرة مركبة لأنها مكونة من عدد من الأفكار البسيطة، مثل فكرة التناسق وفكرة اللون والشكل، وشعور الارتياح أو الاستحسان الذى يشعر به المرء عند رؤية الشئ الجميل. الأفكار المركبة هى نتيجة العمليات الذهنية التى يقوم بها العقل، وتنقسم هذه العمليات الذهنية إلى ثلاثة أنواع ينتج كل نوع منها نوعاً من الأفكار المركبة. هذه العمليات الذهنية هى: ( 32) 1 - الدمـــج Combining: حيث يجمع العقل فكرة بسيطة مع فكرة أخرى للوصول إلى فكرة مركبة، وذلك مثل مثال الجيش الذى شرحناه آنفاً، إذ هو نتاج دمج عدد من الأفراد مع بعضهم البعض، وكذلك فكرة المثلث التى تعتمد على الدمج بين فكرة الضلع وفكرة الزاوية. 2 - التعلـــق Relating: وفيه لا يدمج العقل فكرة بأخرى بل يحافظ على الفكرتين منفصلتين ومستقلتين لكن يربط بينهما بعلاقة، مثل إدراك العلاقة بين شئ سابق وشئ لاحق باعتبارها علاقة سببية بينهما، حيث يكون السابق سبباً لحدوث اللاحق، وكذلك أفكار المكان التى تعتمد على إدراك علاقات التجاور وعلاقات الجهة مثل اليمين واليسار والأمام والخلف والأعلى والأسفل، ذلك لأنه لا يمكن إدراك هذه العلاقات إلا بالربط بين الأشياء على أساس المكان الذى تشغله بالنسبة لبعضها البعض. وفكرة الزمان أيضاً لأنها تعتمد على علاقات التوالى والتزامن، وهذه العلاقات تصف الترتيب الزمنى بين أشياء منفصلة. 3 - التجريـــد Abstraction: حيث يجمع العقل طائفة من الأشياء المتشابهة ليدرك ما بينها من اشتراك وعمومية، وهذا هو مصدر الأفكار العامة، أى الكليات والمجردات، مثل فكرة الإنسان التى يتوصل إليها العقل بتجريد العام والمشترك في النوع البشرى. الأفكار المركبة إذن إما أن تكون أحوالاً modes أو جواهر substances أو علاقات relations. الأحوال هى الأفكار المركبة عن الأشياء، وهذه الأفكار لا تقوم بذاتها مستقلة بل هى في حاجة إلى وجود شئ سابق عليها تقوم به، مثل الوفاء، ذلك لأن الوفاء لا يمكن أن يوجد إلا في الشخص الوفى، والشكل الكروى الذى لا يمكن أن يقوم بذاته بل هو صفة لكل ما يتصف بهذا الشكل، والقتل الذى هو فعل لا يحدث بذاته بل في حاجة إلى فاعل وهو القاتل. أما الجواهر فهى تشير إلى أشياء مفردة تقوم بذاتها وتتصف بأحوال( 33)، وهى نتاج الربط بين عدة أحوال، مثل الربط بين البياض والصلابة والبرودة للوصول إلى فكرة الثلج، والربط بين الحيوانية والنطق والتعقل للوصول إلى فكرة الإنسان. وبذلك يكون الثلج هو الجوهر الذى تجتمع فيه صفات البياض والصلابة والبرودة، وفكرة الإنسان هى الجوهر الذى تجتمع فيه صفات الحيوانية والنطق والتعقل. والملاحظ أن فكرة لوك عن الجوهر تختلف عن نفس الفكرة لدى الفلسفات السابقة الأرسطية والأفلاطونية، ذلك لأن الفكرة الأرسطية عن الجوهر تلحق به الثبات واللاتغير والقوام، حيث يكون الجوهر هو الشئ حامل الصفات المتغيرة. إن الجوهر في الفلسفات الأرسطية يتم الوصول إليه بالعقل، إذ يكون لديها هو القوام الذى يحمل الصفات، أما الجوهر عند لوك فيتم الوصول إليه من الإدراك الحسى، لأنه بذلك يكون هو الشئ الذى تجتمع فيه عدد من الصفات حصرياً. يتوصل أرسطو إلى الجوهر عن طريق العقل، بينما يتوصل إليه لوك عن طريق الحواس، والجوهر عند أرسطو هو القوام الثابت، أما عند لوك فهو ليس سوى المحل الذى تجتمع فيه مجموعة من الصفات أو الإدراكات الحسية، وبذلك أحل لوك نظرية تجريبية في الجوهر محل النظرية العقلية الأرسطية. 4 - الأحـــوال: يقسم لوك الأحوال إلى أحوال بسيطة وأحوال مركبة، الأحوال البسيطة هى تلك التى تتكون من أفراد بسيطة أو فرد واحد متكرر أو ممتد، وذلك مثل المكان( 34). فالمكان مكون من أجزاء بسيطة مضافة إلى بعضها ومتكررة، إذ أن المكان هو الامتداد، والامتداد يقاس بوحدات بسيطة مثل السنتيمتر أو المتر أو الكيلومتر، ويكون المكان الأكبر مجموع من أمكنة صغرى، لكل منها مقياس بوحدة قياس بسيطة. وكذلك الموضع place فكل جسم يشغل موضعاً وهو حيز من المكان، وكلما غير الجسم مكانه احتل مكاناً آخر متطابق الأبعاد. والزمان أيضاً من الأحوال البسيطة لأنه يقاس بوحدات بسيطة هى الثوانى والدقائق والساعات، وامتداد الزمان هو تكرار وحداته البسيطة وإضافتها إلى بعضها. وكذلك العدد، فإذا فكرنا في العدد عشرة أو في عشر كرات وجدنا أن العدد عشرة هو تكرار للعدد واحد عشر مرات، والعشر كرات هو مجموع وحدات متماثلة هى الكرة الواحدة لعشر مرات( 35). فالأحوال تكون بسيطة لأنها تعتمد على تكرار وحدات مماثلة، سواء كانت وحدات مكانية أو زمانية أو رقمية. ويضيف لوك إلى الأحوال البسيطة مفهوم اللامتناهى infinity، فالمكان يمكن تصوره على أنه لا متناهى لأنه من الممكن أن نضيف وحدات مكانية أخرى إلى المكان القائم إلى مالانهاية، وكذلك الزمان والعدد، فكل عدد يمكن تصور عدد أكبر منه بإضافة عدد آخر إليه. وكما أن هناك لا تناهى في الحجم والعدد والزمن فهناك أيضاً لا متناهى في الصغر، فكل مكان يمكن تقسيمه إلى وحدات مكانية أصغر إلى مالانهاية. مفهوم اللاتناهى إذن يعتمد على إمكانية الإضافة اللامتناهية أو التقسيم اللامتناهى لمكان أو زمان أو عدد قائم. وكما أن الأحوال البسيطة تعتمد على إضافة الوحدات المتماثلة إلى بعضها فهى أيضاً تعتمد على إدراك التنويعات التى تحدث لفكرة بسيطة واحدة، وذلك مثل التفكير الذى يعد حالاً بسيطاً لأنه يعتمد على فكرة واحدة وهى الفهم، لكنه يتنوع إلى عدد كبير من عمليات التفكير مثل الجمع والمقارنة والفصل والاستدلال والحكم. ويضم لوك عدداً من إحساسات الشعور إلى الأحوال البسيطة مثل اللذة التى تعتمد على فكرة الحلاوة أو الارتياح، والألم الذى يعتمد على فكرة المرارة أو عدم الارتياح. كما يضم لوك فكرة القوة power إلى الأحوال البسيطة، لأنها تعتمد على ملاحظة قدرة جسم ما على التأثير على جسم آخر، وبذلك ندرك أن في الأجسام قوة على التأثير على بعضها أو على تغيير صفاتها أو على إحداث إحساسات مختلفة فينا، والذى يجعل لوك ينظر إلى القوة على أنها حال بسيطة أنها تعتمد على إدراك واحد عن قوة في الشئ أو قدرته على إحداث أثر. وفى حين أن الأحوال البسيطة تعتمد على أفكار بسيطة ترد في النهاية إلى إدراكات حسية، فإن الأحوال المركبة تعتمد على تركيب عدد من الأفكار البسيطة مع بعضها البعض( 36). والأحوال البسيطة يمكن أن تشاهد دلالاتها الحسية في إدراك حسى، وهى تشير مباشرة إلى الأشياء المحسوسة، أما الأحوال المركبة فهى لا تشير إلى الأشياء مباشرة بل إلى أفكار أخرى بسيطة، وذلك مثل فكرة السعادة التى هى حال مركب، وهى حال مركب لأنها تركيب من عدد من الأفكار البسيطة مثل اللذة والغنى والارتياح والجمال. ومن الأحوال المركبة التى يذكرها لوك القناعة والشجاعة والجشع، ونلاحظ على الأمثلة التى يضربها لوك على الأحوال المركبة أنها كلها تنتمى إلى مجال الأخلاق والسلوك العملى، والحقيقة أن هذا الجمع بين الأفكار النظرية والأفكار الأخلاقية العملية، أى بين الإبستمولوجيا والأخلاق في سياق فلسفة تجريبية واحدة كان الطابع المميز لفلسفة لوك ولكل فلسفة تجريبية أتت بعده، وعلى رأسها فلسفات هيوم وجون ستيوارت ميل وجورج إدوارد مور، وأصبح هذا الجمع هو ما يميز الفلسفات الإنجليزية ذات الطابع التجريبى. لكن نلاحظ أيضاً أن نظرية لوك حول الأحوال المركبة بها شئ من الغموض، ذلك لأنه يضمها إلى فئة الأفكار البسيطة بذهابه إلى أن الحال المركب هو جمع بين عدد من الأفكار البسيطة، لكن الحال المركب هو في حد ذاته فكرة مركبة، وكان يجب على لوك أن يضمه إلى فئة الأفكار المركبة ولكنه لم يفعل ذلك نظراً لذهابه إلى أن الحال المركب مكون من أفكار بسيطة مجمعة مع بعضها( 37). كما يأتى مصدر الغموض في مفهوم لوك عن الأحوال المركبة أنها هى المفهوم الوحيد في فلسفته الذى يجمع بين النظرى والعملى، ذلك لأن الأحوال المركبة لديه تحوى معظم القيم الأخلاقية ومعايير السلوك العملى، وفى نفس الوقت تحوى جانباً نظرياً متمثلاً في كل التنويعات التى يجريها العقل على مفاهيم الزمان والمكان؛ كما أننا إذا دققنا النظر في حديث لوك اللاحق حول الجوهر والعلاقات سنجد أن كل الجواهر والعلاقات لديه تنضم إلى فئة الأحوال المركبة، بما أن الجوهر لديه مجرد فكرة ذهنية عن الصفات والأحوال وعن قوة تأثير الشئ في غيره، فالجوهر بذلك حال مركب بما أنه لا يشير مباشرة إلى الإدراكات الحسية بل هى أفكار بسيطة عن الأشياء. كل هذا سبب غموضاً حول نظريته في الأحوال المركبة، لأنه لم يفصل بدقة بين الحال المركب على المستوى الإبستمولوجى والحال المركب على المستوى الأخلاقى العملى، وبما أنه لم يدرك أن الأحوال المركبة تنسحب على الجواهر والعلاقات. 5 - الجواهـــر : يذهب لوك إلى أن فكرة الجوهر فكرة مركبة، ذلك لأنها تتركب من أفكار بسيطة. وهى عنده مجرد افتراض وليس لها وجود حقيقى من ذاتها، ذلك لأننا لا ندرك إلا الأحوال والصفات والكيفيات، وعندما نلاحظ أن عدداً من الصفات متلازم في الشئ الذى ندركه ولا يمكن أن ينفصل عنه، نفترض أن هذه الصفات يجب أن يكون لها حامل تحمل عليه، أو قوام تقوم به( 38). فقطعة الثلج مثلاً تتصف بالصلابة والبياض والبرودة، هذه الصفات ملازمة لقطعة الثلج، ونفترض بذلك أن هذه الصفات يقف تحتها حامل تحمل عليه وهو جوهر الثلج، لكننا في الحقيقة لا ندرك شيئاً يسمى جوهر الثلج، أو الثلجية، وكل ما ندركه مباشرة هو صفات قطعة الثلج. ويذهب التأمل الفلسفى خطوة أبعد قائلاً أن هذه الصفات هى التى تجعل قطعة الثلج ثلجاً لا أى شئ آخر، بحيث تكف هذه القطعة عن أن تكون ثلجاً إذا افتقدت لصفة من الصفات الثلاثة، وبالتالى يظهر الافتراض بأن قطعة الثلج جوهر تتجمع فيه صفات البياض والصلابة والبرودة. والحقيقة أننا بذلك لم نتوصل إلى جوهر الثلج بل إلى مجرد صفاته وإلى كون هذه الصفات ملازمة للشئ المسمى ثلجاً( 39). فكلما أردنا تعريف الجوهر وجدنا أنفسنا نعرِّف صفاته وحسب ولا نتوصل إلى حقيقة جوهر الثلج. وبذلك رد لوك الجوهر إلى صفاته المدركة المحسوسة وقطع بأن الثلج لا يوجد إلا على أنه مجموعة صفات وحسب ولا يوجد كجوهر خاضع لإدراك خاص. كما يذهب لوك إلى أن فكرة الجوهر تأتى للذهن من كثرة ربطه بين عدد من الصفات بشئ ما، فالجوهر ما هو إلا عادة فكرية. هذا بالإضافة إلى أن الذهن يعتاد على تسمية صفات معينة باسم كلى يجمع بينها، فالبياض والصلابة والبرودة هى الإحساسات التى يستقبلها الذهن، ثم يطلق عليها اسماً واحداً هو الثلج، ثم يعتقد أن هذا الاسم الواحد هو الجوهر، والحقيقة أنه ليس كذلك، لأن ما يسمى بالجوهر لا يستقبله الإدراك الحسى بل هو مجرد اسم. وبذلك رد لوك الجوهر إلى عادة لغوية تجعل الذهن يعتقد أن ما أطلق عليه أسماء كلية هو الجوهر لكنه ليس كذلك، ومن هنا فإن الجوهر عند لوك ليس سوى اسم، ولذلك سُمى مذهب لوك في الجوهر بالمذهب الاسمى Nominalism، ذلك المذهب الذى لا يعتقد في وجود جواهر حقيقية بل يعتبرها مجرد أسماء أطلقها الذهن على الأشياء، فالجوهر عنده مجرد ظاهرة لغوية. والجوهر عند لوك هو مجرد افتراض نصنعه كلما أردنا البحث عن قوام للصفات( 40)، فالعقل لا يتصور أن تقوم الصفات أو الأحوال أو الأعراض بذاتها، ويجد أنه لزام عليه أن يفترض وجود شئ ثابت يحمل هذه الصفات والأعراض. وبذلك يعتقد العقل أن كل العمليات البيولوجية التى تحدث للإنسان قوامها الجسد، الذى يعد بالنسبة لها الجوهر. كما أن العمليات الذهنية مثل التفكير والاستدلال والخوف والسعادة تحمل على شئ مفترض هو الروح، التى يُعتقد أنها هى الجوهر الذى تقوم فيه هذه العمليات. ويرفض لوك أن يكون الجسد أو الروح جوهراً، ذلك لأن كل ما ندركه عمليات بيولوجية أو ذهنية، وليس لدينا أدنى دليل على ارتباط العمليات البيولوجية بوحدة واحدة مقومة لها وجامعة وهى فكرة الجسد، كما أنه ليس لدينا أدنى دليل على ارتباط العمليات الذهنية بشئ يسمى الروح، لأن الروح لا تخضع للخبرة التجريبية ولا تتلقى منها إدراكات حسية أو بيانات أو انطباعات، كل ما ندركه عمليات ذهنية تفترض أن هناك روحاً تقف وراءها وتجمعها معاً( 41). والحقيقة أن رفض لوك لفكرة الجوهر يتبعه ضرورة القول بأن العمليات البيولوجية والعمليات الذهنية يمكن أن تقوم بذاتها وفى غنى عن جوهر تقوم به، سواء كان الجسد أو الروح، بحيث تشكل هذه العمليات نسقاً متكاملاً ينظم نفسه بنفسه ويسير ذاته من ذاته دون حاجة إلى جوهر ينظمه أو يوجده. لكن لم يقدم لنا لوك تلك النتيجة الضرورية المترتبة على تحليلاته ورفضه لفكرة الجوهر، بل ترك الأمر على ما هو عليه، ويعد هذا نقصاً كبيراً في فلسفته، فأنت لا تستطيع أن تنكر فكرة الجوهر دون أن تسلم بأن العمليات البيولوجية والذهنية قائمة بذاتها ومنظمة لذاتها، لكن لم يذهب لوك في فلسفته إلى هذا الحد وتوقف عند حدود إنكار فكرة الجوهر وحسب. ويذهب لوك إلى أن هناك ثلاثة أنواع من الأفكار تشكل لدينا فكرة الجوهر، وهى الصفات الأولوية مثل الشكل والامتداد والصلابة والقابلية على عدم الاختراق، والصفات الثانوية وهى اللون والطعم والرائحة والملمس، وأخيراً قابلية الشئ على تغيير صفاته الأولوية أو الثانوية مع بقائه ثابتاً وموجوداً( 42). والحقيقة أن الأنواع الثلاثة من الأفكار هذه ليست أنواع لأفكار، ذلك لأن لوك قد أخطأ عندما نظر إليها جميعاً على أنها أفكار بل هى مبادئ للتوحيد. فالصفات الأولية التى نتوصل بها إلى فكرة الجوهر المادى ما هى إلا مبادئ يوحد بها العقل الصفات للتوصل إلى فكرة الجوهر، وكذلك الصفات الثانوية هى مجرد مبدأ لتوحيد ما يطرأ على الشئ من أعراض مع بقاءه ثابتاً وسط تغير أعراضه. ثم يأتى لوك بفكرة جديدة حول الجوهر، إذ يذهب إلى أن الجوهر سواء كان مادياً أو روحياً من طبيعة واحدة، فالجوهر المادى هو جماع الصفات الحسية والخصائص والصفات الأولية والثانوية، والجوهر الروحى أيضاً هو جماع الأحوال النفسية والعمليات الذهنية( 43). صحيح أن الجوهر المادى والجوهر الروحى مختلفان في طبيعتهما ومضمونهما، إلا أن الذهن يتوصل إليهما عن طريق نفس العملية الذهنية التى تلحق أحوالاً، مادية أو نفسية، بشئ ثابت يشكل لها الدعامة والقوام. وليس معنى هذا أن لوك يعتقد في وجود الجوهر بل هو يحلل مجرد أفكارنا عنه. والحقيقة أن توحيد لوك للجوهر المادى والروحى على أساس العمليات الذهنية التى تنتج كل منهما شبيه بنظرية سبينوزا في الجوهر، والذى ذهب إلى أن هناك جوهر واحد في الكون ذو طبيعة مزدوجة، مادية وروحية في نفس الوقت، وإلى أن الجوهر إذا نظرنا إليه من ناحية صفاته المادية ظهر على أنه جوهر مادى، وإذا نظرنا إليه من ناحية صفاته الفكرية ظهر أنه جوهر فكرى أو روحى، وإلى أن الجوهر الواحد يحمل صفات الفكر والامتداد في نفس الوقت. كل الفرق بين لوك وسبينوزا أن لوك يعتبر الجوهر واحداً من منطلق وحدة العمليات الذهنية التى تنتجه، في حين أن سبينوزا يعتبر الجوهر واحداً من حيث المضمون والوضع الأنطولوجى. كما أن لوك ينتهى إلى اعتبار الجوهر مجرد فكرة عقلية ناجمة عن عمليات ذهنية في حين يعتبره سبينوزا حقيقياً وليس مجرد نتاج للذهن. لكن وراء كل هذه الاختلافات نكتشف أن لوك وسبينوزا قد وحدا بين الجوهر المادى والجوهر الفكرى أو الروحى، الأول عن طريق وحدة العمليات الذهنية التى تنتج الجوهر المادى والجوهر الروحى معاً، والثانى عن طريق توحيد صفات الامتداد والفكر في جوهر واحد. والاختلاف الأساسى بينهما أن لوك يعتبر الجوهر مجرد فكرة أو ظاهرة إبستمولوجية في العقل البشرى، في حين يعتبره لوك وجوداً أنطولوجياً وليس مجرد نتاج للتفكير.[11]
مراتب المعرفة وحدودهاعدل
يذهب لوك إلى أن العقل البشرى يستطيع الوصول إلى الصدق والحقيقة في معارفه، ولذلك فهو يرفض وجهة النظر الشكية رفضاً تاماً. والحقيقة أن مذهبه التجريبى كان يمكن أن يؤدى به إلى نزعة شكية، مثلما هو الحال عند هيوم، وذلك من منطلق أن كل معرفة تأخذ نقطة انطلاقها من الحواس والإدراكات الحسية معرضة للشك. لكن نفس المنطلق التجريبى الذى أدى ببعض المذاهب الفلسفية إلى الشك مثل مذاهب الشك اليونانية كمذهب زينون الإيلى والمذهب الشكى الحديث لدى هيوم، يؤدى لدى لوك إلى القطع بيقين وصحة المعرفة الإنسانية. وتنقسم المعرفة عند لوك حسب طبيعتها ودرجة اليقين فيها إلى معرفة حدسية intuitionist ومعرفة استدلالية demonstrative( 44). والمعرفة الحدسية عنده أكثر يقينية وصدقاً من المعرفة الاستدلالية. وهذا الرأى غريب بعض الشئ، ذلك لأن لوك يرفض فيه أن تكون المعرفة القائمة على مبادئ عقلية مجردة تستخدمها في براهين للوصول إلى الصدق ذات أولوية أو أفضلية على المعرفة الحدسية، ذلك لأنه يرفض نظرية الأفكار الفطرية منذ البداية، ويرفض فكرة أن يكون لدى العقل البشرى مبادئ قبلية يتوصل بها إلى حقائق بالاستدلال والبرهان. ولذلك لا ينتمى لوك إلى فئة الفلاسفة العقليين الذين يعطون الأولوية للمعرفة الاستدلالية من مبادئ عقلية، وينضم إلى فئة التجريبيين. ويبدو لأول وهلة أن إعطاء لوك الأولوية للمعرفة الحدسية متناقض مع مذهبه التجريبى، ذلك لأن رده كل المعرفة البشرية إلى الخبرة التجريبية يجعل قوله بأولوية المعرفة الحدسية متناقضاً، وهو تناقض ينشأ عن الاعتقاد في أن الحدس الذى يقصده لوك هو فعل روحى خالص متحرر من أى خبرة تجريبية. لكن مفهوم لوك عن الحدس مختلف تماماً عن أى معنى عقلى أو مثالى للحدس، فالحدس عنده تجريبى تماماً؛ إذ هو قوة في الذهن يستطيع بها إدراك الحقيقة تماماً كما تدرك الحواس الأشياء( 45)، ولذلك فهو في نفس مرتبة الإدراك الحسى. وإذا كان الإدراك الحسى هو الفعل الذى تقوم به الحواس، فإن الحدس هو الفعل الذى يقوم به العقل، وهذا الحدس هو نوع من الإدراك الحسى الخاص بالعقل. وعلى الرغم من أن هذا الحدس غير حسى، إلا أنه مثل الرؤية الحسية تماماً، فهو مباشر وغير متوسط، وفيه لا ينشغل العقل بإثبات أو فحص أى شئ برهانياً، بل يدرك الحقيقة مثلما تتلقى العين الضوء بمجرد أن تتوجه إليه. وما يجعل لوك يعطى الأولوية للحدس أن كل برهان أو استدلال في الدرجة الثانية من المعرفة وهى المعرفة الاستدلالية تعتمد على حدس مباشر وواضح، إذ تبدأ بهذا الحدس صانعة منه كل العلاقات والارتباطات بين الأفكار. ويرفض لوك أن تكون المعرفة سائرة في طريقها بالطريقة المنطقية( 46)، ذلك لأن شكل القياس المكون من البدء بمقدمات والوصول منها إلى نتائج تلزم عنها ليس هو طريقة التفكير التى يتبعها العقل في معرفته، بل هو مجرد تحليل منطقى للمعرفة الإنسانية ولا يبين لنا كيفية التفكير. ولا يقلل لوك من شأن المنطق أو البرهان الرياضى، لكنه يعتبرهما أسلوباً تحليلياً يأتى لتحليل ما تحصل عليه العقل من معرفة بعد عملية تفكير لا تسير هى ذاتها بهذه الطريقة، بل تسير على طريقة الحدس المباشر. والحدس عند لوك ليس حدساً بالماهيات والكليات والمبادئ الأولى والحقائق الثابتة مثل الحدس عند ديكارت وغيره من العقليين، بل هو حدس من طابع حسى تماماً، ذلك لأنه يتمثل في إدراك عقلى مباشر للعلاقة بين الأفكار التى ترجع إلى الإدراك الحسى( 47). ومعنى هذا أن الحدس الذى يقصده لوك هو حدس بالعلاقة بين الإدراكات الحسية. صحيح أن ملكة الإدراك الحسى لا تحتوى على حدس بالعلاقات بين الإدراكات لأنها مجرد ملكة متلقية للاحساسات، إلا أن هناك ملكة أخرى هى الفهم الإنسانى والتى تدرك العلاقات عن طريق حدس حسى. والمعرفة عند لوك ليست سوى إدراك للعلاقات بين الأفكار، واتفاقها أو اختلافها عن بعضها البعض. وهو يذهب إلى أن كون العقل يحتوى على أفكار لا يعنى أنه يحتوى على معرفة، ذلك لأنه طالما لم يربط العقل بينها ويعرف العلاقات التى تربطها واختلافها أو اتفاقها مع بعضها فهذا معناه أنه ليست لديه معرفة( 48). وبذلك تكون حصيلة العقل من الأفكار أكبر من حصيلته من المعرفة، فالأخيرة محدودة للغاية بالنسبة لحصيلة الأفكار. والصدق عند لوك هو اتفاق أفكار العقل عن الإدراكات الحسية، واتفاقها فيما بينها، بحيث تكون الفكرة الصادقة هى المتفقة مع الإدراك الحسى أولاً، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون الهوية، وهى المتفقة مع ذاتها دون أن تتناقض مع أفكار العقل الأخرى، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون عدم التناقض. والمعرفة عند لوك محدودة واحتمالية. فهى محدودة لأنها لا تستطيع أن تتجاوز مجال الخبرة التجريبية ومقيدة بها، واحتمالية لأن العلاقات التى يقيمها العقل بين الأفكار ليس شرطاً فيها أن تكون حاضرة للخبرة التجريبية، ذلك لأن علم مثل الهندسة يتوصل إلى قوانين لا يشاهدها مباشرة في إدراك حسى بل هى مجرد علاقات بين الأفكار المكانية الرياضية، وكل ما يتوصل إليه العقل من علاقات بين الأفكار احتمالى وليس يقينياً تماماً( 49). والغريب أن يأتى لوك بهذا الرأى الذى يرفض أن يلحق بالرياضيات اليقين التام، بعكس كل الفلاسفة من قبله والذين نظروا إلى الرياضيات على أنها تتمتع بأقصى درجات اليقين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن اليقين عند لوك يجب أن يكون مرتبطاً بإدراك حسى، وإذا لم يكن مرتبطاً به فهو احتمالى. فالرياضيات تتوصل إلى مفاهيم عن الأعداد المتناهية في الصغر والكسور والأعداد المتناهية في الكبر، وهذه المفاهيم احتمالية لأن مدلولاتها لا تخضع للخبرة التجريبية. ومصدر اليقين في الرياضيات لا يأتى من اتفاقها مع الخبرة، بل يأتى من منهجها البرهانى الدقيق الذى يعتمد على الحدس الحسى. ولأن الرياضيات تعتمد على الحدس الحسى فهى من هذه الناحية يقينية تماماً. والرياضيات تفكير حول العلاقات بين أفكارنا البسيطة حول الأجسام، وهى كلها علاقات مكانية. ونستطيع أن نتوصل في الرياضيات إلى نتائج يقينية على صلة حقيقية بالواقع نظراً لأن الرياضيات معتمدة حصرياً على أفكار بسيطة، لكن ليست كل نتائج الرياضيات واستنباطاتها مما يمكن أن ينطبق على الواقع الحسى المدرك، إذ تظل صحيحة باعتبارها وصفاً لعلاقات ضرورية بين أفكارنا، وليس شرطاً لازماً أن تكون العلاقات الرياضية موجودة في الواقع. وهكذا أدخل لوك تمييزاً في الرياضيات بين الطابع اليقينى والحتمى لنتائجها ونظرياتها والطابع الاحتمالى لتحقق نتائجها في الواقع. والغريب والمدهش حقاً أن يجد لوك قرابة بين طبيعة الرياضيات هذه والأخلاق، ذلك لأن علم الأخلاق عنده هو الآخر علم نظرى يعتمد حصرياً على أفكار بسيطة، ومن هنا طابعه التجريبى الواقعى، لكنه من جهة أخرى يقيم علاقات، في صورة معايير ومبادئ أخلاقية صحيحة في ذاتها لكن صحتها هذه لا تجعلها حتمية التحقق في الواقع. أما الوجود الحقيقى فلا يقصد به لوك الوجود الفعلى الواقعى مثل وجود الأشياء المادية، بل يقصد به الوجود الضرورى الذى تحتويه كل معرفة، وهو ثلاثة أنواع: وجود النفس، والإله، والعالم. وجود النفس نعرفه بالحدس، الذى هو عند لوك نوع من الإدراك العقلى أو الذهنى المباشر لا الإدراك الحسى، ذلك لأننا لا نجد النفس من بين أشياء العالم المادى بل نشعر بها فقط وتكون لدينا عنها فكرة بسيطة. أما معرفة الإله فهى معرفة برهانية استدلالية، إذ نعرف وجود الإله من ملاحظتنا للترتيب والنظام في الطبيعة متوصلين بذلك استدلالياً إلى ضرورة وجود كائن وضع هذا النظام والترتيب. أما وجود العالم فهو معرفة حسية، إذ نعرف وجوده بما نتلقاه من إحساسات بأشيائه المختلفة.[